(الأمل البعيد .. قصة نجاح لفتاة سعودية )


(الأمل البعيد .. قصة نجاح لفتاة سعودية )


 ترويها لنا بقلمها :
قد تتعجبون عند قراءتكم قصتي وقد تقولون بأنها ضرب من الخيال ولكن لتعلموا أن كل حرف فيها ينبض بالصدق والحقيقة فقد نسجتها لكم من خيوط معاناتي.. لتعرفوا فقط أنني ما عانقت اليأس فيها يوما لأنني توكلت على ربي سبحانه وفوضت أمري إليه فمنحني قوة الإيمان والأمل.. التي جدفت بهما حتى رَسَتْ في النهاية على ميناء السعادة والحقيقة، فاقرءوها.. لتزرعوا الأمل في ما بعد في جنبات حياتكم.. ولتطردوا منها كل طائر يأس قد يعشش فيها. 
عشت طفولة بائسة أقل ما يقال عنها بأنها كئيبة مظلمة وسط أسرة فقيرة لا تكاد تجد ما تسد به رمقها من الجوع.. لم أعرف طعم الحلوى والسكاكر كباقي الأطفال في طفولتي البائسة تلك ومازلت أذكر كيف أننا كنا ننتظر الأعياد ومناسبات الأفراح لجيراننا وأهل الحارة بفارغ الصبر والترقب لأننا نتذوق من خلالها اللحوم والفواكه التي نحرم منها طوال العام.. كانت أسرتي أسرة مفككة لا يكاد أي فرد فيها يشعر بالآخر فلكل منا عالمه الخاص المغلق عليه هو فقط ولا يستطيع أيا كان أن يدخل إليه لا لأن أبوابه موصدة بقوة.. بل لأن أيا منا لم يكن ليهتم بدخول عالم الآخر فكل فرد من أسرتي للأسف كان لديه ما يشغله من أعمال وخصوصيات يخجل قلمي من ذكرها..!! 
كان أبي يعمل (مستخدما) في أحد المعارض وراتبه البسيط لا يصل بالأسرة الكبيرة إلى نهاية الشهر بأمان.. بل كثيرًا ما تتوقف بنا سفينة الحياة في منتصف الشهر.. هذا على الرغم من بؤس عيشنا وشظف حياتنا!! 
كان والدي إنسانًا سلبيًا قانعا من الحياة بعشرة أطفال مشردين في الشوارع أحيانًا لا يعلم عنهم شيئا.. وربما كان لاستخدامه المخدرات في بداية حياته وكثرة دخوله وخروجه من السجن آثارا سلبية جعلته لا مبالي بكل ما حوله.. كنت أشفق عليه أحيانا وأنا أرى نبتة الأمل تخبو في نفسه يوما بعد الآخر كان كثيرا الصمت والشرود لا يحرك ساكنا ولو انهارت الدنيا من حوله.. أو كأنما هو أحسن بأن خيوط حياته قد أفلتت من بين يديه فآثر أن لا يركض وراءها فأذعن لها بكل انهزامية واستسلام.. 
أما والدتي واعذروني إن تحدثت عنها بهذه الطريقة المؤلمة.. فالحقيقة أشد إيلامًا، فقد كانت تتسكع بين بيوت الحارة طوال يومها وكأنها لم تستوعب يوما أنها زوجة وأم... عليها واجبات تجاه زوجها وأبنائها وكانت دائما تنظر إلى ما في أيدي الآخرين وتحسدهم على ما أنعم الله به عليهم وتستجديهم وتريق ماء وجهها ليجودوا عليها ببعض الفتات، فكأن أمي وأبي قد اعتبروا أن هذه الأسرة مصيبة حلت عليهم فهم يخشون مواجهتها أو حتى التعايش معها..!! 
أما إخوتي فحدث ولا حرج فهم يعيشون بين جنبات الشوارع بلا هدف ولا معنى.. وأغلبيتهم انحرفوا عن جادة الصواب والطريق القويم دون أدنى مساءلة من أبي وأمي.. حتى إخوتي البنات لم يقمن وزنا للأخلاق ولا للشرف ولا حتى لنظرة المجتمع من حولهن..!! والكارثة العظمى أن إخوتي بمجرد وصولهم إلى الصف الرابع الابتدائي فإنهم يتسربون من مدارسهم بلا سبب سوى ضجرهم وعدم قدرتهم على النهوض صباحا فيقررون هكذا الانقطاع عن المدرسة دون حسيب أو رقيب والاكتفاء بالتقلب داخل رحم التخلف والانحراف والتشرد.. في ظل شرود أبي وتسكع أمي بين شوارع الحارة. عشت هذه الطفولة الكئيبة وأنا كارهة لو وضعي ناقمة على أمي وأبي اللذين تجردا من أشرف وأسمى لقب في الوجود، متشبثة بدراستي بقوة سمكة صغيرة مرتجفة تسبح ضد التيار الذي لا يرحم، وقد كنت من المتفوقات على الرغم من قسوة الظروف من حولي وتفكك أسرتي وانحراف أفرادها بلا استثناء.. وسأحدثكم الآن عن اليوم الذي غير مسار حياتي للأبد وفيه بدأت مأساتي الحقيقة والتي لولا إيماني بالله ورحمته بي لما تجاوزتها.. فحين حصلت على شهادة الصف الثالث متوسط وأنا الوحيدة من أسرتي التي وصلت إلى هذا المستوى.. تقدم رجل لخطبتي من أبي وكنت حينها في الخامسة عشرة من عمري أما هو كان في الستين من عمره مصاب بالضغط المرتفع والسكري ومدمن للخمر وتاجر للمخدرات.. مما يدر عليه دخلاً مرتفعا وهذا هو السبب الوحيد الذي جعل لعاب أمي وأبي يسيل ولا يكاد يقاوم الإغراء المادي الذي يتراقص أمامهما بكل بريق ولمعان، ومن دون تردد وافقا ودون حتى أن يأخذا موافقتي صرخت في وجهيهما.. لا أريده.. أريد أن أكمل دراستي.. زوجوه أختي الكبرى.. ولكن للأسف كان صوتي مجرد صدى يتردد من حولي دون أن يسمعه أحد سواي وكأنما كنت أحادث الفراغ اللامتناهي أمامي وليس والداي فقد أصما عقليهما إلا من نداء المال قبضت أسرتي ثمن البيعة الخاسرة وهي مسرورة على الرغم من علمهم بأنه من مصدر حرام.. وتم زفافي وسط جو كئيب من التعاسة واللامبالاة.. فتخيلوا أن أمي لم تفكر حتى في توجيه أية نصيحة لي تلك الليلة أو حتى إلقاء نظرة على زينتي وماكياجي الذي وضعته أنا على وجهي أو حتى أن تتفقد أغراضي التي أحتاج إليها في بيتي الجديد.. أتعلمون ما أول شيء وضعته في حقيبتي، وضعت دروسي وكُتبي والتي كنت أتعلق بها كما يتعلق الطفل الصغير بثوب والدته خشية ضياعه منها في دروب الحياة الغامضة. ودخلت داري الجديدة، عفوا أقصد سجني وبمجرد أن أغلق الباب وراءه بدأ بافتراسي كما يفترس الذئب ضحيته بكل وحشية ودموية حاولت الهرب منه ولكنه لم يمهلني بل بدأ بتمزيق فستان زفافي ومعه مزق كل معنى جميل كنت أحاول رسمه لحياتي القادمة.. لقد اغتصبني كما يغتصب المجرم عديم الأخلاق ضحيته في شوارع الليل المظلمة وبين جنبات الخرائب المتهدمة، وبعد أن انتهى من جريمته تناول شرابه الكريه واستلقى على فراشه كثور ضخم متبلد الإحساس دون حتى أن يكلمني أو ينظر إلى وجهي وارتفع صوت شخيره البغيض وهو أشبه بصوت طرق عنيف على أذني.. 
ولكم أن تتخيلوا فتاة في الخامسة عشر من عمرها في هذا الموقف المروع الذي اغتال آدميتها ونقاءها أخذت أرتجف بألم وأجفف جراحي النازفة وأهدئ من روعي المتصاعد من هذا الوحش الآدمي.. الذي يرتدي عباءة الزوج.. خمس سنوات مرت من عمري دفعتها كفاتورة قاسية للجشع والطمع اللذين أعميا أبصار أهلي، خمس سنوات من عمري دفعت ثمنها غاليا وذقت فيها كل ألوان العذاب من ضرب بالسياط والنعال - أكرمكم الله - والحبس وحتى الحرمان من الطعام وكأنني خادمة يتيمة في قضية سيد اشتراها من ماله فهو يتحكم بها كيف ما يشاء.. كل ذلك لم يقهرني بقدر ما قهرني وجعلني أنزف من الداخل حرماني من الدراسة ورفضه التام لذهابي إلى المدرسة أو حتى لانتسابي وأدائي للاختبار نهاية العام، أصبحت أشبه بهيكل عظمي نتيجة الهم والغم الذي أصابني بسبب حرماني من الدراسة ولكن الله الرزاق الرحيم يشاء أن يهبني أطفالا يشغلونني عن كثرة التفكير بحرماني من الدراسة التي أعشقها إلى درجة لا يتصورها إنسان، أنجبت ولدين وبنتا خلال خمس سنوات فقط وأنا في العشرين من عمري لقد عاهدت نفسي أن أجنب أطفالي جميع ما مررت به في طفولتي من ألم الإهمال وعدم الإحساس بالأبناء.. ولكن أنى لي ذلك وأبوهم إنسان متجرد من شرف الأبوة فبمجرد أن يشرب الخمر ويصبح ثملا فإنه يقوم بضربي وإياهم على أتفه الأسباب.. أتدرون أنني في أغلب الليالي الطويلة كنت أحتضنهم وأنام وإياهم ونحن جالسون خوفا من أن يقوم بقتلنا كما كان يتوعد دائما.. أما حين يكون بحاجة للمخدر ولا يجده فإنه يقوم بتحطيم الأثاث وتكسير الأواني وطردي مع أطفالي إلى الشارع وكثيرا ما قام جيراننا الطيبون بإيوائنا رحمة وشفقة بنا ولعلكم تتساءلون عن والداي ودورهما مساعدتي..؟ اسمحوا لي أن أصدمكم بقولي.. أنهما لم يحركا ساكنا تجاه ما يريانه من أحداث مؤلمة تحيط بي. وكاد اليأس أن يتسلل إلى نفسي من هذه الحياة السوداء التعيسة التي أعيشها ولكن قوة إيماني بربي كانت تحول بيني وبين هذا الشبح البغيض.. دعوت الله في تلك الليالي المدلهمة أن يفرج كربي ويزيل عني هذا البلاء الذي تعجز نفسي المرهفة على احتماله! واستجاب الله لدعائي.. ففي ذات يوم سمعت صراخ الجيران من حولنا وهم ينادون علي (يا أم 
فلان.. زوجك.. زوجك) ركضت أنا وأطفالي مسرعين خرجنا من الدار لنرى ما حدث.. لقد قام زوجي السكير بالعراك مع رجل من زبائنه اختلف وإياه على ثمن قطعة هيروين فتطاعنا بالسكين فطعنه زوجي طعنات قاتلة فمات على الفور.. 
لقد شاهدت زوجي المجرم وقد تلطخت ملابسه بالدماء وهو يرتجف بين أيدي رجال الشرطة، كما يرتجف الفأر المذعور حين يقع في المصيدة، كانت شفتاه تميلان إلى اللون الأبيض من هول الموقف، وأطرافه بالكاد تحمله، أما عيناه فكانتا زائغتين ينظر إلى الناس من حوله بذهول أما أنا فلا تسألوني عن مشاعري المضطربة حينها، لا أدري أهي لحظات سعادة، أم شماتة انتظرتها من زمن طويل، أم هي مشاعر ألم هيجتها ذكرياتي المؤلمة، لم أشعر إلا وأنا أردد لا شعوريا، الحمد لله.. الحمد لله، تذكرت تلك الليلة الحزينة ليلة زفافي الأليمة حين وجه طعناته النافذة، واغتصبني بقسوة رجل سكير يحمل بين جنبيه قلبا من صخر لا رحمة فيه ولا شفقة.. تذكرت جراحي النازفة وثيابي الممزقة , وارتجافي بين يديه بخوف، لم أكن أعلم إلى أين أفر؟ ولم يكن لي مهرب تذكرت دموعي الساخنة في تلك الليلة السوداء، يا إلهي ها هو الزمن يعيد تصويره العجيب إنه اليوم في نفس موقعي بالأمس، يا لها من دنيا عجيبة. وبعد أسبوع فقط من القبض عليه وقبل حتى أن تبدأ محاكمته، أصدرت عدالة السماء حكمها فمات بعد ارتفاع الضغط وإصابته بنزيف دماغي، أتتخيلون البلبل الصغير حين يفتح له باب القفص فجأة فيتردد في الانطلاق ظنا منه أن ذلك حلم، كنت أنا مثله تمامًا، بصقت على دولاب ملابسه وعلى كؤوس خمره القذرة وعلى سوطه الذي ألهب جسدي وجسد أطفاله من ضرباته المؤلمة بصقت على كل شبر في منزلي سار عليه ودنسه برجليه الكريهتين وجاءت أسرتي تعزيني بوفاته وأنا التي لم أرهم منذ سنتين فكانت أول كلمة قالتها أمي حتى قبل أن تقبلني الله يرحمه.. هل عنده ورث؟!! ولولا خوفي من الله لطردتها وطردتهم جميعا، ومن تصاريف رب القدر أن زوجي كان مدينا وحين علمت أسرتي بذلك لم أعد أراهم، فقد خافوا أن أشكل عليهم عبئا إضافيا أنا وأطفالي، شعرت بالألم الممزوج بالقهر، فيا لها من بيعة خاسرة تلك البيعة التي 
أبرمها أهلي مع ذلك الجلاد.. خمس سنوات من عمري ضاعت وحين كان أهلي يستعدون لجني الأرباح وجدوا أن الأسهم كانت خاسرة.. ففضلوا الهرب بعيدا، جلست أفكر مليا فأنا الآن أمام مفترق الطرق، فأنا أرملة جميلة في العشرين من عمري لدي ثلاثة أطفال، وليس لدي مورد رزق.. ماذا أفعل؟؟! أمامي طريقين أسلكهما الأول هو طريق الكفاح والصبر.. والأمل البعيد، والثاني: طريق الكسب السريع حين أبيع أنوثتي للراغبين في امرأة جميلة ووحيدة، اخترت الطريق الأول بلا تردد.. فأهم شيء حصلت عليه من رحلتي المؤلمة أنني أصبحت حرة ليس لهؤلاء عديمي الرحمة والشفقة قيد عليَّ فكان أول ما فعلته أنني بعت آخر قطعة ذهب خبأتها عندي بمبلغ لا بأس به ورحلت عن هذا المنزل الكريه الذي شهد أسوأ ذكرياتي... وانتقلت أنا وأطفالي إلى مدينة بعيدة وهناك استأجرت غرفة صغيرة بحمامها، واشتريت موقدا صغيرا وسريرا مستعملا ليضمني أنا وأطفالي، وبعض الأواني القديمة المستعملة، أعترف أنها كانت غرفة حقيرة حتى في نظر الفقراء ولكن ما جعلها مثل الحلم بنظري هو أنني وحدي فيها مع أطفالي فأنا التي أحدد مصيري بعد إرادة الله طبعا فلا أحد بعد اليوم سيرسم لي طريق حياتي البائسة. 
بدأت أبحث عن عمل شريف أعيش منه أنا وصغاري ولقد سخر الله لي جيران طيبين ساعدوني كثيرا فقد كانوا يتصدقون علينا ببعض الطعام والملابس القديمة وأحسنوا إليَّ فجزاهم الله عني خير الجزاء ووجدت عملاً حكوميا كمستخدمة في إحدى المدارس الثانوية القريبة من بيتي، ولا أنسى أول راتب قبضته في حياتي، صحيح أنه كان بسيطا ولكن دموعي انهمرت من عيني لحظة تسلمه بكيت كثيرًا وحمدت الله على رزقه وإعانتي على لقمة العيش الشريفة، اشتريت لأطفالي ملابس جديدة وألعابًا وطعاما طيبا ولأول مرة منذ أربعة أشهر أطبخ لحما ودجاجًا لأطفالي، وأشتري لهم بسكويتا وشوكولاته، كنت أرى السعادة تتراقص في أعينهم وهم يتلذذون بما أحضر لهم خاصة حين هجرنا الخوف من ذلك المجرم الذي كان يضربنا في كل لحظة وكأننا كلاب شريرة جاءت تتسول على بابه. مرت سنة كاملة عليَّ وأنا في وظيفتي استطعت خلالها أن أكسب احترام مديرتي وتعاطف المعلمات 
وحب الطالبات بما منحني الله من تفاني بالعمل وإخلاص، وذات يوم سألت نفسي لم لا أكمل تعليمي الثانوي خاصة أنني في مدرسة ثانوية وعرضت الأمر على مديرتي فشجعتني كثيرا وفعلا قدمت أوراق انتسابي وكانت صدفة أن ابني البكر يدرس في الصف الأول الابتدائي وأنا في الصف الأول الثانوي، اجتهدت كثيرا في دراستي على الرغم من الأحمال الملقاة على عاتقي كأم وموظفة وطالبة، وفي خلال ثلاث سنوات حصلت على شهادة الثانوية العامة بنسبة سبع وتسعين بالمائة وكانت هذه النسبة مفاجأة لكل من حولي بكيت كثيرا وأنا أرى ثمار جهدي بدأت تنضج... انتقلت من عملي كمستخدمة وقدمت على وظيفة كاتبة في إحدى الدوائر الحكومية براتب جديد بالإضافة إلى تقديم أوراق انتسابي إلى الجامعة قسم التربية الإسلامية، استأجرت شقة صغيرة مكونة من غرفتين وصالة ومطبخ مستقل وحمام ولأول مرة يدخل التلفزيون إلى بيتنا بعد أن أخذت سلفه من البنك أثثت فيها الشقة أثاثا جديدًا صحيح أنه كان بسيطا ولكنه لم يكن مستعملاً وبدأت ارتاح نوعا ما في حياتي خاصة أن أطفالي جميعهم دخلوا المدارس وأصبحوا من المتفوقين دراسيا وأخلاقيا، اشتريت لأطفالي ما كانت نفوسهم تهفوا إليه من ألعاب رخيصة وملابس بسيطة وحاولت قدر الإمكان أن أعوضهم عن حاجتهم إلى العائلة الكبيرة، فكونت صداقات عميقة مع زميلات وأخوات في الله، كن نعم العون لي فكنا نذهب في نزهات وزيارات سوية نروح عن أطفالنا والذي كان يثلج صدري ويمنحني الصبر والأمل هو نظرات الحب التي كنت أراها في عيون أطفالي وتلك القبلات اللذيذة التي كانوا يعطرونني بها بمناسبة أو بدونها، مرت أربع سنوات عصيبة حصلت فيها على البكالوريوس بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف الأولى ثم استقلت من عملي ككاتبة وتم تعييني معلمة في مدرسة ثانوية كان ابني الكبير في الثالثة عشرة من عمره حين أصبحت معلمة احتضنني بقوة وهو لا يكاد يغالب دموعه قائلا (أمي أنا فخور بك أنت أعظم أم في العالم) واحتضنتهم جميعا وظللنا نبكي بلا شعور لساعات طويلة، ولأول مرة في حياتي أقبض مرتبا ضخمًا، تصدقت بنصفه كشكر لله على نعمه المتوالية عليَّ وبما يسر لي من أسباب الرزق وبنصفه الباقي اشتريت 
لأطفالي جميع ما يحتاجون إليه وبدأت فيما بعد أدخر جزءًا كبيرا منه لبناء منزل خاص بنا، وقدمت على الماجستير وحصلت عليها خلال سنتين فقط بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف، وبدأت في بناء منزلنا الكبير المكون من طابقين به عشر غرف وصالتين ومطبخ ومستودع وحديقة كبيرة ومسبح جميل وقدمت على الدكتوراة وكان مشوارها صعبا جدا خاصة أن أطفالي بدؤوا يكبرون ويتدرجون في فصولهم فكان الإرهاق يكاد يقتلني أحيانا وأنا أشتت نفسي بين عملي كمعلمة وبين مذاكرتي للدكتوراة وأبحاثي وبين مذاكرة أولادي وبين الإشراف على البناء والتأثيث والذي كان أثاثًا فخما ورائعا، وحصلت خلالها على درجة الدكتوراة وبامتياز أيضا مع مرتبة الشرف وتم تعييني كأستاذة في الجامعة، وأنا في السابعة والثلاثين من عمري، أتعلمون لحظة تسلمي لشهادتي بمن فكرت؟؟ لقد فكرت بأمي، ترى لو رأتني في هذا المشهد فهل كانت ستبكي من الفرح، أو أنها ستسألني عن العائد المادي الذي سأجنيه من وراء ذلك؟! 
ولكن لا تعتقدوا أني إنسانة عاقة لوالدتي أو أنني لم أحاول صلتها في ما مضى بالعكس لقد ذهبت إليها أكثر من مرة خلال مشوار حياتي فوجدتها كما هي لم تتغير تتسكع بين بيوت الجيران وتهفو إلى المال دائما أيا كان مصدره حتى أنها كثيرا لا تسأل شقيقاتي من أين يأتين بالمال بل أهم من ذلك أن يعطينها شيئا منه.. أما والدي فقد توفي بعد زوجي بسنة واحدة اقتطعت جزءا من مرتبي شهريا وكنت أرسله لها بانتظام إلى أن توفاها الله بعد ذلك.. أما إخوتي وأخواني فلم يكن يشرفني التعرف إليهم أو تواجدهم في حياتي فابتعدت عنهم من أجل أبنائي ابتسمت الحياة لي بعد عبوس طويل فها انأ الآن لي مركزي الاجتماعي وأعيش في بيت فخم وعندي الخدم والسائقين وأبنائي جميعهم قد تخرجوا من جامعاتهم العلمية فابني الكبير أصبح طبيبا جراحا والآخر مهندسا معماريا والصغرى طبيبة أطفال وقد زوجتهم جميعا وأصر ابني الكبير أن يعيش هو وزوجته معي فملؤوا عليَّ البيت بالحياة وضحكات الأحفاد وها أنا الآن في الخامسة والخمسين من عمري مازلت أحتفظ بمسحة من جمالي برغم جميع الظروف التي مررت بها... 
قصتي هذه أهديها إلى كل يائس ومحبط لعل بها من بصيص الأمل ما يبدد لحظات اليأس في حياته!! 
وصدقوني لو استسلمت لليأس ولحظاته المريرة لما وصلت إلى هذه الحياة التي أعيشها الآن بفضل الله سبحانه وتعالى ثم بفضل تمسكي بالأمل رغم كل الخطوب من حولي. 
اليأس قاتل حين يشرع له أبوابنا كضيف ثقيل لا يبالي بمشاعر الآخرين. 
فيا أيها اليائس إياك أن تفتح له بابك وإن ادلهمت من حولك الصعاب..!! 
فصدقوني ومن تجربة خضتها واستطعت النجاح فيها ليس هناك أجمل من التفاؤل والتشبث بالأمل حتى وإن كان صغيرًا. 

المصدر : كتاب هكذا هزموا اليأس

الرجل الذي لا يؤمن بالفشل مؤسس CNN


الرجل الذي لا يؤمن بالفشل


يعتبر تيد تيرنر, مؤسس شركة ( CNN ) من أكثر الأشخاص مخاطرة وحبا للخوض في المجهول سعيا وراء إثبات صحة مايفكر ويحلم به . 
ولإعطاء القارئ فكرة بسيطه عن مدى حبه للمغامره والمخاطرة , فقد غامر تيرنر العالم 1970 بوكالة إعلان كان يملكها والده ليخسر الكثير من وراء فتحه مؤسسة تلفزيونية تدعى WTBS حولها إلى محطة " سوبر ستايشن " , ثم عاد وخاطر مرة ثانية ليشتري Atlanta Braves & Atlanta Hawks , ثم خاطر بمئة مليون دولار لينشئ محطة CNN ثم بكل مايملك ليمتلك شركة CBS وخسرها فعلا خلال سعيه لامتلاك MGM.


كانت أفعال تيد جنونية حسب رأي موظفيه , وعائلته والإعلام, أما بالنسبة إليه فكان مايفعله أمرا طبيعياً جدا , وكان يردد دائما : عدم العمل هو قمة المخاطرة". ويقول عن ذلك " يجب أن تجرب دائما وتخاطر وتغامر ؛ لأنه ليس بوسعك سوى سنوات محدودة لتحقيق أحلامك " ولم يكن تيد يؤمن بالفشل؛ إذ لطالما قال :" إن قاموس مفرداتي لا يحوي عبارة ( إذا فشلنا)". تأثر تيد تيرنر بهلين كلير التي قالت : "أما الحياة فمغامرة يومية أو لاشيء "  وكان يعتبر أن الخوف من المخاطرة هو مايجب أن يخافه كل إنسان . كما تأثر بقول جورج جليدر: " إن المستثمر الذي لا يتخذ قراراً إلا عندما يتأكد من أن الإحصاءات ستتطابق من وجهة نظره والمستثمر الذي ينتظر الموافقة من السوقيحكم على نفسه بالفشل ! ".

ولم يكن تيد تيرنر مخاطراً في العمل فقط إنما في حياته بشكل عام فقد خاطر بحياته وبحياة من معه من خلال سباق للقوارب هبت خلاله رياح شديدة أدت إلى فقدان أغلب القوارب المشاركة . رفض الرضوخ, تابع يتحدى الرياح العاتية والتي قتلت 15 مشاركاَ وفاز بالسباق, كان شعار تيد تيرنر " كن قائدا واستمر أو أبتعد عن الطريق"."Lead Follow Or Get Out Of the Way"  وقد جعله هذا الشعار من أشهر الشخصيات في العالم. 

ولد روبرت إدوارد تيرنر الثالث ( أو تيد تيرنر , اختصاراً)  في سنسياتي أو هايو في الولايات المتحدة الأمريكية في 19/ 11/ 1938م .ترك المدرسة الداخلية في سنسياتي عندما كان في السادسة , وذلك لاضطرار أهله لترك المدينة بسبب مهمة حربية لوالده. تركه للمدرسة أثر فيه كثيراً , وولد لديه شعور بعدم الأمان والرفض. كان والده قاسيا جدا في تعامله معه, وكان يضربه كثيرا في صغره, حتى أنه في أحد المرات ضرب تيد والده كرد على الضرب المبرح الذي كان يناله منه. ولكنه ندم بعدما فعل ذلك وبكى بمرارة. كانت علاقة تيد بوالده ممزوجة بالكراهية والحب إذ كان والد يعاني الإكتئاب, وكان لهذه العلاقة تأثير كبير في تكوين شخصيتة تيد تيرنر. انتقلت العائلة إلى سافانا في ولاية جورجيا عندما كان عمر تيد 9 سنوات, وقد قضى فترة صباه يدرس في كليتين حربيتين, ويحاول التأقلم مع مجتمع عدواني, حيث إنه كان منبوذا وغير محبوب من الأولاد حوله والأصدقاء, والذين كانوا ينعتونه بأبشع الصفات والألقاب. درس الثانوية العامة في أكادمية ماكالي الحربية . كان فاشلا في الرياضة ولكنه كان قارئا نهما ويقرأ الحضارة اليوناينة.
وكان معجباً الأسكندر الكبير وتأثر بها كثيراً . وكان والده يحبه, ولكنه على قناعة بأن شعور تيد بعدم الأمان سيكون دافعاً رئيساً في تطور شخصيته. وكان يعتبر أن عدم الأمان يدفع الإنسان ليكون عظيماً وسيكون مجبراً على المنافسة التي تؤدي به إلى البروز , وقد أثبتت الأيام أن والد تيد على حق, حتى إن تيد تيرنر نفسه كان قد صرح لديفيد فروست في أكتوبر 1991م قائلا:
" من الصعب أن تجد إنسانا ناجحا لم يكن جزء من دافعه للنجاح نابعا من شعور بعدم الأمان".

أحب تيد سباق القوارب الشراعية وذاع صيته واشتهر بشجاعته ومخاطرته في هذه اللعبة. كان يحب أن يستعرض بمركبه الشراعي , ويقوم بحركات خطيرة أعطته لقب " تيد البهلواني"  ترك العلوم الإنسانية , ليدرس الإقتصادر بعدما كتب إليه والده قائلاً:" إنك تتحول إلى مغفل بسرعة مدهشة" .
حبه للقوراب الشراعية دفعه إلى اختيار انابوليس لإكمال دراسته الجامعية, لكن والده عارض الفكرة؛ لأنه يريده أن يدخل جامعة ايفي ليغ فقرر تيد دخول جامعة هارفرد لكنهم رفضوه, فدخل جامعة براون, وأصبح بعدها " البلاي بويو رقم 1" لينتقم بذلك من الرفض الذي يلقاه منذ طفولته, وتخصص تيد
في العلوم الإنسانية, وشكل تيرنر مع بيتر دامس في الجامعة ثنائيا فاسقا يشار إليه بالبنان , فكان شغفهما بالجنس اللطيف غريباً.  ولولا حبه للقوارب الشراعية لكان يقضي وقته في أقامة الحفلات . وقد تم توقيفه عن الدراسة لفترة تخطيه حدود الآداب التي يجب أن يتحلى بها الطلاب, ولأنه لم يرتدع تم فصله نهائيا من الجامعة, وكان يوصف بأنه ولد مجنون.


عمل تيد تيرنر كبائع إعلانات في وكالة الإعلان التي كان يملكها والده الذي انتحر وكان عمره تيد أنذاك 24 سنة. وقد أوصى والده قبل أنتحاره بأن يرث تيد وكالة الإعلان لكن في الأيام التي تلت تبين أن والده قد باع الوكالة إلى أحد منافسيه!!. جن جنون تيد وبذل أقصى جهده لكي يوقف الصفقة من دون جدوى . كانت الوكالة هي الرابط الوحيد الذي يربطه بوالده. وقد سافر إلى بالم سبرينغ ليطارد رجل الأعمال الذي لم يعر أي أهتمام لتيد؛ لأنه كان يعتبره ولداً عديم الخبرة, وكل ما يحاوله هو أن يقبض ثمنا أكبر من الذي أشتراه من والده حتى يتسنى له ممارسة هواياته في القوارب الشراعية وملاحقة الفتيات, ولم يشكل تيد أي خطر على المشتري ؛ لأن الجميع كانوا يعتبرونه شخصا ساذجاً. لا شك في أن تيد كان مبتدئاً في أمور العمل ومتاهاته ,  ولا يعرف الكثير عنه إنه يعتمد على حدسه وغريزته في اتخاذ القرارات؛ وكان تعامله مع العمل كتعامله مع سباق الزوارق الشراعية أو كخوض حرب !!

تأثر تيد كثيراً بما قرأه في طفولته ومنها " التجارة والعمل حرب " لذا استعمل مناورة ساعدته كثيرا وهي أنه خلال 24 ساعة من آخر رفض لطلبه بوقف صفقة بيع وكالة والده اتفق مع موظفي قسم تأجير مساحات الإعلانات على تحويل جميع العقود ( العصب الرئيسي للوكالة) إلى أسم شركة جديدة, ماسحب البساط  من تحت الشركة المنافسه من مينيابوليس , التي ضاقت ذرعا بتصرفات الصبي الأرعن الذي أعطاهم مهلة أسبوعين لإلغاء الصفقة.


كانت الشركة تعلم أن تيد مفلس, وليس معه مال, فاجتمعوا معه وعرضوا عليه مبلغ مقداره 200 ألف دولار. إما أن يدفع أو أن يترك الشركة وإذا لم يوافق على هذا العرض, فأنهم سيستعملون كل الوسائل القانونية لكسب القضية. كما أنهم أرادوا أن يعطوه درساً لطيشه وتهوره, فأعطوه مهلة 30 ثانية لاتخاذ القرار. اعتقدت الشركة المنافسة بأن تيد سيأخذ المبلغ ويذهب إلى سباق القوارب, ولكن صعقهم عندما قال لهم : "أنا لا أحتاج إلى 30 ثانية سأدفع لكم 20000 دولارا  واخرجوا من مكتبي.!!".
لم يكن أحد يتوقع هذا القرار, حتى تيد نفسه الذي سأل بعدها مديره المالي : "من أين لنا هذا المبلغ الضخم ؟ ولحسن حظ تيد أن الشركة المنافسة  وافقت على أخذ المبلغ على شكل أسهم بدل المال , وكسب تيد الرهان". كانت هذه اللحظات نقطة تحول في حياة تيد فهذه المخاطرة علمته ألاَّ يهاب شيئاً, وأثرت الطريقة التي اتخذ بها قراراته في كل مراحل حياته. لقد أعطته هذه التجربة دفعة معنوية مفعمة بالثقة بالنفس, ودفعته إلى اتمام صفقات اعتبرها الجميع جنوناً واضحاً, كان مؤمنا بنفسه, وواثقا إلى درجة مدهشة جعلته محاربا في العمل من الدرجة الأولى, بخاصة عندما حاربته المؤسسات التالية خلال شقه لطريق النجاح والتقدم :
RCA, NBC, CBS, time, Westinghouse, federal,
communicatons, Commission, Cable operator.

يعتقد الناس بأن تيد تيرنر كان مولعاً بالتفزيون , ولذلك انخرط في هذا المجال, لكن العكس هو الصحيح. فالغريب أن تيد لم يحب التلفزيون أبدا, وهو لم يحضر 100 ساعة تلفزيونية  قبل أن يفتتح محطة السوبر ستايشن والتي كانت تعرف من قبل بـ
UHF, WTS, وقبل أن يفتتح CNN . نعته الجميع بالحماقة والجنون؛ لأن المحطات الباقية كانت أكبر منه 100 مره, وهو يخاطر بمبالغ خيالية ليطرح فكرة محطة CNN . قال تيد لأحد مساعديه: " هل أنا مجنون فعلاً ؟ لماذا أفعل هذا ؟ كيف أقوم بعمل كهذا وألتزم بمئة مليون دولار ؟ هل فقدت عقلي ؟
لكنه قرر المضي قدماً في قراره, وغير بذلك النظرة إلى التلفزيون على الرغم من الصعوبات الجمة التي واجهها في البداية, حيث حار في أمره كثيرون, وحكم عليه كثيرون بالفشل , ولم يستطع جذب المعلنين في البداية. كان كرستوفز بونز من " الواشنطن بوست " من أشد منتقديه, وكان يردد دائماً : إن هذا المشروع فاشل .!. ويقول عن ذلك : " السبب الرئيس الذي جعل تيد تيرنر يمضي قدما في مشروعه هو أنه لا يفهم المشكلات التي ستواجهه, إنه ببساطة, لا يركز ولا يعلم الحجم الحقيقي لما يفعله, ولو فكر للحظة لخاف وتراجع , وبخاصة أنه لا يفهم شيئا في مجال الأخبار والتلفزيون". أثار هذا التعليق سخط تيرنر, ما دفعه إلى إرسال غراب ميت وشوكة إلى بونز بمناسبة افتتاح سي إن إن !! ^^..
وقبل ولادة CNN كان طرح RCA للقمر الصناعي SATCOMI العام 1975 الفرصة الذهبية لتيد تيرنر, وأسهم ذلك في نجاحات تيد تيرنر ,
والذي ضرب بعرض الحائط بكل مفاهيم البث , وبدأ ببث برامج مجانيه على شبكة الكابل, ما أثار غضب الشبكات المنافسة واعتبروه خطراً عليهم 
لكن الإقبال على مشاهدة برامج السوبر ستايشن كان ممتازا؛ لأنه قدم خدمة ترفيهية مجانية.

فاز تيد أخيرا في 3 مارس 1980 بحق ربط cnn بالقمر الصناعي ستايكوم1 , ويقال أن معركته لكسب هذا الرهان تصلح لأن تكون سيناريو لفيلم في هوليود؛ لأنه استعمل كل الأساليب من تهدية إلى تملق إلى الرجاء. وكانت فرصته الوحيده وكسبه للقضية التي كانت بينه وبين fcc للبث على الهواء 
إنقاذا له, ولولا فوزه لكان تيد تيرنر أعلن إفلاسه.  وتمت إذاعة أول برنامج لـ cnn في 1/6/ 1980م.


كانت مشروع سي أن أن مخاطرة عظيمة , لكل الأرقام تشير إلى الفشل. حسب الأرقام, فإن cnn لن تستطيع أن تغطي 60 % من المصاريف. 
وحتى هذا الرقم كان مبنيا على اشتراك 8 ملايين مشترك , والذي لم يكن مضمونا في ذلك الوقت . وبناء على تجربة السوبر ستايشن, فبتأكيد ستسخر الشركة مايقارب مليون دولار شهريا, صرف تيد تيرنر 35 مليون دولار تقريبا, وكان وعلى وشك الإفلاس عندما باع شارلوت ستايشن قبل افتتاح سي أن أن , ودفع 7 ملايين دولارللموظفين, وكانت الشركة تخسر مليون دولار كل شهر. ما دفع الجميع إلى نعي تيد تيرنر ماديا في العامين 1980م - 1981م .

حسن الوضع بعد ذلك وفي عام 1986م اشترى شركة  أم. جي. أم مقابل 4,1 مليون دولار ليحصل على مكتبة الأفلام النادرة التي تحتويها الشركة . 
وصف بالمجنون مرة ثانية, وكان هذا الوصف صحيحا هذه المرة؛ لأنه أصاب تيد تيرنر بالإفلاس, نظراً لديونه الضخمة المتراكمة , وتمت كفالته بمبلغ حصته من شركة turner- broadcating station التي انخفضت من 83 في المئة إلى 43 في المئة, وعاد تيد تيرنر إلى الوقوف على رجليه من جديد, وكانت الغبطة الرئيسية لـ cnn هي أنها كانت المحطة الأولى التي تبث وقائع اغتيال البابا بولس الثاني من روما, وفي العام 1982 وضعت مجلة " التايم " صورة تيد على غلافها , ووصفت cnn بأنها من الأربعة الكبار إلى جانب cbc, nbc, abs , ووصلت cnn إلى أفضل حالاتها خلال حرب " عاصفة الصحراء" العام 1991م, حيث كان الرئيسان جورج بوش وصدام حسين يتابعانها لحظة بلحظة, ولا يشاهدان غيرها مع الملايين من البشر, وحقق بذلك تيد تيرنر حلمه في التواصل مع ملايين البشر بعد 10 سنوات من إنشاء المحطة.

وسئل تيد تيرنر مرة : كيف استطاع أن ينشىء cnn على الرغم من أن الجميع توقع فشله, بخاصة أنه لم تكن لديه أية خطة, ولم يتابع آية دراسة للسوق أو دراسة للمستهلك ؟ فأجاب: أنت لا تحتاج إلى دراسة إذا كنت مؤمنا بفكرتك وواثقا من نجاحها, لم أتبع دراسة خلال أنشائي سي . أن أن ؛ لأن هذه الدراسة كانت ستكلفني كل ما أملك ..أنا أفعل ما تمليه علي أفكاري".

تميز تيد تيرنر بأنه مقنع إلى درجة كبيرة, وكان يشبه شخصية فريدريك سميث في سحر شخصيته. عن قوة إقناع تيد تيرنر , يقول جورج بابيك من مكتب نيويورك : إذا قال لك تيد إن الشمس ستشرق من الغرب في الساعة الخامسة صباحا فإنك بالتأكيد ستضحك عليه, ولكنك في الوقت نفسه ستضبط المنبه في الخامسة صباحا لربما كان تيد على حق ..!.


كان تيد لغز وشخصية متناقضة بالنسبة إلى موظفيه , أصدقائه, زوجته السابقه جاني, فهو يتكلم عن فلسفة معينه ويفعل عكسها. كان يحلق شعره بنفسه, ويحلق شعر أولاده لسنوات طويلة , حتى عندما كان يملك 100 مليون دولار. كان يؤنب موظفيه وأصدقاءه على التبذير وقد ضبطته زوجته مرة عندما كان يطفئ الأنوار لتخفيف المصروف, وفي الوقت نفسه ينفق الملايين على نزواته التجاريه ! .. 

كذلك كان تيد شخصية مخاطرة إلى أبعد الحدود, ويقول دائما " إن اسعد لحظة في حياتي هي عندما يقول الناس : إن موضوعاً ما سيفشل, وأثبت لهم العكس, لقد عارضني الجميع في كل خطوة, ووافقني الجميع بعدما قمت بها".

كان لا يطيق التردد والتأجيل, ونشيطاً ومملوءاً بالحيوية , يشبه النمر في تحركاته, كثير الكلام, لدرجة حتى أن موظفيه قالوا عنه : عندما تتحدث معه تحس بأنك تتحدث مع راديو, كان يحارب حتى أخر لحظة. وعن ذلك يقول تيد: لا يمكن أن ارفع راية بيضاء في حياتي .أنا لا أستسلم أبداً وهذه هي قصة حياتي".

تيد تيرنر شخصية غريبة, فقد كان لديه - على الرغم من حبه للمخاطرة - خوف دائم من الموت, وإحساس بأن احداً سيقتله, وهاجسه هذا دفعه إلى الإدمان على دواء " ليثيوم" ليعالج نفسه من هذه الحالة. تزوج تيد تيرنر 3 مرات ورزق بخمسة أطفال ( اثنان من الأولى التي تزوجها لسنتين, وثلاثة من الثانية جين سميث والتي ظلت معها لمدة 3 سنوات) وتزوج في 7/ 12 / 1991م من الممثلة جين فوندا في عيد ميلادها, وقد تركت التمثيل لأجله.

وصلت CNN إلى المرتبه الثانية في شبكات الكابل بعد ESPN , ووصلت مشتركيها العام 1991م إلى 60 مليون وكل هذا بفضل رؤية لم يرها سوى تيد تيرنر , ولولا هذا الرجل لكانت صناعة الأخبار متأخره كثيرا..

تيد, الذي وصفه الجميع بالمجنون والأحمق, وصل إلى كل بيت وإلى كل الدول, واختارته مجلة "التايم" التي كانت من أشد منتقديه 
" رجل العام لسنة 1992م . وكان يقول دائماً:" إذا كنت لا تستطيع أن تقوم بعمل ما بصورة ممتازه فلا تفعله من الأساس".

ويقول تيد متحدثا عن نفسه :" لقد كبرت وكبرت معي عقيدة عمل نقشت في وجداني طوال حياتي, تقول : لكي تكون ناجحا .. كن ناجحاً - ظل يراودني إحساس مريع بأنني لن أكون ناجحاً. لذلك توفي والدي حين كنت في الرابعة والعشرين , وقد كان هو حقاً الشخص الذي كنت أتوقع أن يكون الحكم, 
على ما إذا كنت ناجحاً أو لا . لذلك حين نشرت صورتي على مجلة " النجاح" Success , لوحت بها, وقلت: " أبي هل ترى؟ لقد أصبحت صورتي غلافاً لمجلة النجاح : هل هذا كاف؟." هل حقا هذا فعلا كاف لرجل لا يعرف حداً ؟... لا أعتقد .


الأيمان بالفكره هو الطريق نحو الثقة بالنفس . 
-الشعور بعدم الرضى وعدم الأمان هو نقص يدفع الإنسان للأنجاز والتحدي !
-مهما كان الإنسان ضال وبه عدت سلوكيات غير سويه لا تعني أبدا أنه 
غير قادر على الإنجاز والنجاح .. ولعل تيد تيرنر خير مثال للفتى الطائش
في أيام شبابه و الناجح في ذات الوقت !
- ليس بالضروة أن تكون قصة النجاح تبدأ بخطوات 1 2 3 .. ألخ , 
هناك نجاح يبدأ من 1 ويقفز حتى 10 , المهم الإيمان بالفكره والثقه بالنفس ..!
-الإلتفات لكلام الناس لن يصنع من الطموح شيئاً.
-المحاولة عن طريق المواجهه وخوض التجارب في شيء 
لا قِبل لشخص به يعد مخاطره وبنفس الوقت مدرسه يتعلم منها الشخص
المبادره والقوة, وتدفعه لتعلم التلقائي وهو أكثر إفاده وتنميه لشخصيه,
وأسرع أختصار لوقت التعلم ...

المصدر : كتاب عظماء بلا مدارس

قصة نجاح مؤسس شركة هونداي .. شونغ جو يونغ







قصة نجاح مؤسس شركة هونداي .. شونغ جو يونغ


ولد شونغ جو –يونغ في عام 1915 م من عائلة فقيرة جدا. كان أبوه مزارعا في قرية نائية في كوريا الجنوبية . ترك قريته واتجه حاملا أحلامه إلى سيئول. وكانت البداية عامل في بناء الورش وحمل الحجارة ونقل الطين. عانى شونغ جو من صعوبة لقمة العيش وأعطته هذه البداية دافعا ليقوي قدراته الشخصية ويكتسب صبرا وعزيمة على تحسين وضعه المهني والاجتماعي.

كان شخصا ايجابيا إلى ابعد الحدود ونشيطا, ويأخذ الأمور بمسؤولية وجدية كبيرتين.وفر شونغ جو-يونغ مبلغا من المال من خلال عمله الشاق , وهو لم يبلغ الثامنة عشر ة من عمره بعد.

بدأت الحرب العالمية ولم يعد لعمال البناء عمل في ظل حرب مدمرة وشرسة. لم ييأس شونغ جو-يونغ وعمل في ورشة لتصليح السيارات والشاحنات العسكرية وتعلم هذه الصنعة واستمر فيها إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية. بعد حوالي 5 سنوات من انتهاء الحرب افتتح شونغ جو-يونغ ورشة لتصليح السيارات وكان ذلك في عام 1946 وكان عمره حينها 32 عاما وبعدها بسنة وبسبب طموحه اللامحدود


أسس شركة للهندسة اسماها “هونداي” وهي كلمة كورية تعني ” الوقت الحاضر”.


 حققت الشركة نجاحا كبيرا و كانت أول شركة تفوز بعقود خارجية لبناء مشروعات خارج كوريا الجنوبية, ما أعطاها مكانة خاصة بين الشركات الأخرى, وأرسى قواعدها وبنيتها الأساسية .كما أسهمت الشركة بشكل أساسي في عملية البناء والاعمار بعد الحربي بين الكوريتين , والتي لم يفقد شونغ جو- يونغ خلالها الثقة في أن الأمور ستتحسن وتتطور , وان الوضع القائم هو وضع مرحلي وسيزول حتما.

من ميزات شونغ جو – أنه كان شخصا مقداما و مخاطرا من الدرجة الأولى.لذا بلغ حبه للمغامرة درجة المقامرة, وكان سببا أساسيا للنظر إلى خارج حدود كوريا والتوجه إلى بلاد لا يعرفها ليسوق أفكاره وخدماته.

كان دائم البحث عن الغريب والمميز.لذا ذهب بمشاريعه إلى مناطق محفوفة بالخطر ، وفي ظروف طبيعية صعبة للغاية كغابات جنوب شرقي آسيا وإلى مناطق ألاسكا . وعلى الرغم من مخاطرته ونظرته الدائمة إلى ما وراء الأفـق وزرع مشاريعه فيها، إلا أنه لم ينس بلاده كوريا . ويدين له الكوريون بالكثير ، حيث كان له دور مهم في بناء البنية التحتية لكوريا من جسور وطرقات ومصانع للطاقة النووية، وغيرها من المرافق الحياتية الأساسية الهامة .

بعد نجاح توسعات شركته ، افتتح شونغ جو- يونغ مصنع ( هيونداي) للسيارات العام 1967 ، وكان نشاطه في البداية تجميع سيارات فورد في كوريا .

شكلت بداية السبعينات نقلة نوعية لشركات هيونداي ،حيث استطاعت شركة هيونداي للمقاولات ومشروعات البناء أن تفوز بعقد قيمته مليار دولار لبناء ميناء في منطقة الجبيل في المملكة العربية السعودية .

استعملت الشركة قطعاً ومعدات كورية بغرض التوفير، كما أنها لم تدفع رسوم تأمين على ما يتم شحنه ونقله من كوريا، ما كان سيعرض الشركة لخسائر فادحة فيما لو تضررت المواد الأولية للبناء، وهذا ما يظهر نسبة مخاطرة


شونغ جو- يونغ وحبه للمغامرة .


وأثبت شونغ جو- يونغ أنه على صواب من خلال هذه المخاطرة . ولعبت هيونداي دورا ً بارزا ً في عملية البناء في الشرق الأوسط .اكتسبت شركات هيونداي ثقة دولية ، وحظي شونغ جو- يونغ باحترام الجميع ،وأثمر ذلك عن دعم الحكومة الكورية لشركاته ، ما ضاعف من مشاريعها ومن توسعها .

تابع شونغ جو- يونغ مغامراته التجارية والتصنيعية فبدأ العام 1973 بتأسيس أكبر مصانع لبناء السفن وترميمها، الرغم من أنه لم يكن لديه أدنى خبرة أو معرفة في بناء السفن . وقد نجح بسبب دعم الحكومة واليد العاملة الهائلة التي عملت من خلال مشاريعه ، وأيضا ً بسبب الطريقة الغريبة التي يفكر بها . وفي عام 1974 طرحت شركة هيونداي لبناء السفن وكان اسمها  Hyundai Heavy Industries  وأول مركب لها تحت اسم  Atlantic baron

ظهرت أول سيارة كورية عام 1975 وكانت من صنع “هيونداي”, وأسمها PONY , وما لبث أن توسعت أعمال الشركة , وخاصة على مستوى العمالة الكورية.

أسس شونغ جو-يونغ بعد هذا التوسع, شركة ” هيونداي” للالكترونيات عام 1983 , وكان نشاطها الأساسي تصنيع الكمبيوتر الشخصي وتطويره, ومرة أخرى , نراه يدخل مجالا جديدا لا يعرفه وينجح فيه.

كانت فلسفة شونغ جو-يونغ نابعة من قناعات راسخة , وهي أن الإنسان يجب أن يسعى دائما إلى تطوير حياته , وأحلى شعور هو إيجاد وظائف ومهن وعمل لآلاف الأشخاص يعيشون مناها ويسهمون في نهضة بلادهم.

كان تركيزه الدائم على الأبحاث والتطوير , وكان يؤمن بأن كل ما يستطيع الإنسان تخيله أو تصوره يستطيع أن يحققه.وأن تأخر هذا الأمر فهذا لا يعني أن يستسلم الإنسان لذلك وندب حظه.

يعتبر شونغ جو-يونغ رجلا اجتماعيا من الدرجة الأولى حيث يلعب أدوارا في جمعيات ولجان شعبية ورياضية, واسهم في تطويرها, كما أسهم بشكل فعال في نجاح اولمبياد سيؤول عام1988 , وكان من ضمن اللجنة المنظمة للاولمبياد.

كان أول كوري جنوبي مدني يقيم علاقات مع دول شيوعية منها موسكو, ولعب دورا مهما في بناء علاقات اقتصادية, وتجارية بين كوريا وهذه الدول.دفعه طموحه لترشيح نفسه لرئاسة كوريا عام 1993, بعدما أسس حزبا سياسيا عام 1992.وعلى الرغم من فشله في الوصول إلى كرسي الرئاسة إلا أن ترشيحه أسهم في طرح عدد من المشكلات الاقتصادية والتنموية.

المصدر كتاب : عظماء بلا مدارس 

عبد الرحمن الداخل .. صقر قريش


تمثال عبد الرحمن الداخل في اسبانيا


عبد الرحمن الداخل .. صقر قريش


عبد الرحمن الداخل الملقب صقر قريش ، والمعروف أيضًا في المصادر الأجنبية بلقب عبد الرحمن الأول. أسس عبد الرحمن الداخل  الدولة الأموية في الأندلس عام 138 هـ،  بعد أن فر من الشام إلى الأندلس في رحلة طويلة استمرت ست سنوات ، بعد سقوط الدولة الأموية في دمشق عام 132 هـ ، وتتبع العباسيون أمراء بني أمية وقتلهم , دخل عبد الرحمن الأندلس وهي تتأجج بالنزاعات القبلية والتمردات على الولاة ، فقضى عبد الرحمن في فترة حكمه التي استمرت 33 عامًا ، في إخضاع الثورات المتكررة على حكمه في شتى أرجاء الأندلس ، تاركًا لخلفائه إمارة استمرت لنحو ثلاث قرون .

نسب عبد الرحمن الداخل ونشأته :

نسبه هو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب. كنيته: أبو المطرف وقيل أبا زيد وقيل أبا سليمان وكانت أمه سبية بربرية من قبيلة نفزة اسمها راح أو رداح.
ولد سنة 113 هـ/731 م في خلافة جده هشام بن عبد الملك، في بلاد الشام عند قرية تعرف بدير حنا، وقيل ولد بالعليا من أعمال تدمر.توفي أبوه شاباً عام 118 هـ[ في خلافة أبيه هشام بن عبد الملك، فنشأ عبد الرحمن في بيت الخلافة الأموي بدمشق حيث كفله وإخوته جده هشام. وكان جده يؤثره على بقية إخوته ويتعهده بالصلات والعطايا في كل شهر حتى وفاته.
ويروى أن عم أبيه الفارس مسلمة بن عبد الملك والذى كان له باعاً طويلاً في علم الحدثان قد وصلته نبوءة تقول بأن عدواً سيأتى من الشرق ويقضي على الحكم الأموي ، إلا أن فتاً أموياً سوف يتمكن من إقامته من جديد في بلاد الأندلس٬ وعندما نظر مسلمة إلى عبد الرحمن لأول مرة في رصافة هشام بعد وفاة أبيه رأى في وجهه العلامات التى تدل على أنه الأموى المقصود.
وعندما أقام العباسيون دولتهم على أنقاض الدولة الأموية، هدفوا إلى تعقب الأمويين والقضاء عليهم خشية أن يحاولوا استرداد ملكهم، فقتلوا بعضهم مما جعل الباقين منهم يستترون. حينئذ، أظهر العباسيون الندم على ما كان منهم، وأشاعوا أنهم أمّنوا من بقي من الأمويين حتى اجتمع منهم بضع وسبعون رجلاً منهم أخ لعبد الرحمن يدعى يحيى، فأفنوهم.[وحين بلغ عبد الرحمن بن معاوية ذلك، هرب من منزله بدير حنا من أعمال قنسرين،[وأوصى بأن يتبع بولده سليمان وأختيه أم الأصبغ وأمة الرحمن. حتى بلغ قرية على الفرات، اختبأ بها. وذات يوم، اشتكى فيه عبد الرحمن الرمد، فلزم ظلمة داره، وإذا بابنه سليمان وهو ابن أربع سنين يدخل عليه فزعًا باكيًا، فتوجس عبد الرحمن وإذا برايات العباسيين في القرية، ودخل عليه أخ له صغير يخبره الخبر. فعمد عبد الرحمن إلى دنانير تناولها، ثم أعلم أختيه بمتوجهه، وفر هو وأخيه. بعدئذ، وشى به عبد من عبيده، تعقبته فرسان العباسيين، فلم يجدا أمامهما مهربًا إلا عبور النهر. وإذ هما في نصف النهر، أغرتهما الشرطة أن يرجعا ولهما الأمان، فرجع أخوه خشية الغرق، وغرر به وقتله العباسيون، وكان عمر أخيه ثلاث عشرة سنة، بينما نجح عبد الرحمن بالوصول إلى الضفة الأخرى. ثم ألحقت به أخته أم الأصبغ مولاه بدر ومولاها سالمًا بمال وشيء من الجواهر، فتوجه عبد الرحمن بالموليين صوب إفريقية.

فرار عبد الرحمن الداخل إلى المغرب :

استغل عبد الرحمن بن حبيب الفهري والي إفريقية سقوط الدولة الأموية ليستقل بحكم إفريقية. خشي الفهري ظهور الأمويين الفارّين من المشرق على ولايته، فتتبعهم بالقتل، فقَتَل منهم ابنين للوليد بن يزيد . لذا ظل عبد الرحمن يتنقل من مكان إلى مكان خمس سنين، بدءًا من نزوله على أخواله بني نفزة، وهم من بربر طرابلس، ثم على نزل على مكناسة وقيل مغيلة، حيث آواه أبو قرّة وانسوس المغيلي، لحمايته من متعقبيه.[ثم منها إلى قوم من زناتة منازلهم قرب البحر في سبتة.
وفي عام 136 هـ، أرسل مولاه بدرًا إلى موالي بني أمية في الأندلس يطلب عضضهم والتمهيد لدخوله الأندلس. فعرض بدر رسالة عبد الرحمن على أبي عثمان عبيد الله بن عثمان وعبد الله بن خالد وأبي الحجاج يوسف بن بخت زعماء موالي بني أمية في الأندلس، فأجابوه. وعرضوا الأمر على الصميل بن حاتم وكان من زعماء المضرية، غير أن الصميل خشي علي نفوذه من مجيء عبد الرحمن، فاستقر على ألا يجيبه. كان الأندلس حينئذ يغلي بسبب النزاعات المتواصلة بين القبائل المضرية واليمانية، فوافقت دعوة عبد الرحمن رغبة اليمانية المدفوعين بالرغبة في الثأر لهزيمتهم أمام الفهرية والقيسية في موقعة شقندة، فاحتشدوا لنصرة لعبد الرحمن. ثم أرسل زعماء الموالي مركبًا تعبر به إلى الأندلس، فوصل إلى ثغر المنكب في ربيع الثاني سنة 138 هـ.

دخول عبد الرحمن الداخل الأندلس :

بعد أن دخل عبد الرحمن الداخل الأندلس أتاه أبو عثمان وعبد الله بن خالد، وسارا به إلى حصن طرش منزل أبي عثمان التي أصبحت مركزًا لتجمع أنصاره. بلغ الخبر يوسف الفهري بوصول عبد الرحمن وتجمع الناس حوله، وعدم قدره عامله على إلبيرة على تفريقهم. فنصح الصميل يوسف بوجوب التوجه فورًا لملاقاة عبد الرحمن، فجمع يوسف جيشه. علم عبد الرحمن بمسير جيش يوسف، فتحرك بجيشه وأخضع كافة المدن في طريقه حتى إشبيلية التي استولى عليها وبايعه أهلها، فتجمع له ثلاثة آلاف مقاتل. ثم حاول مباغتة يوسف الفهري، ومهاجمة قرطبة ليستولي عليها والتقيا في موضع يبعد عن قرطبة نحو 45 ميلاً لا يفصلهما إلا النهر. حاول يوسف أن يغري عبد الرحمن الداخل لينصرف بجنده، بأن وعده بالمال وبأن يزوجه من إحدى بناته. إلا أن عبد الرحمن الداخل  رفض، وأسر خالد بن يزيد أحد رسل يوسف، لإغلاظه له القول وفي الليل، حاول عبد الرحمن الدخل أن يسبق بجنده جيش يوسف خلسة إلى قرطبة. علم بذاك يوسف فسار الجيشان بمحاذاة النهر صوب قرطبة، إلى أن انحسر الماء عند المصارة يوم الأضحى العاشر من ذي الحجة لعام 138 هـ، فعبر جيش عبد الرحمن الداخل ودارت المعركة التي انتهت بنصر عبد الرحمن الداخل , خلال المعركة أشيع بين الجنود أن عبد الرحمن الداخل يركب جوادًا سريعًا للفرار به وقت الهزيمة. فلما بلغ عبد الرحمن الداخل هذا الكلام ترك فرسه في الحال وقال: "إن فرسي قلق لا يتمكن معه الرمي!"، ثم ركب بغلاً ضعيفًا كي يقنع جنوده بأنه لن يولي ظهره للأعداء بعد انتصاره، دخل عبد الرحمن إلى قرطبة، وأدى الصلاة في مسجدها الجامع حيث بايعه أهلها على الطاعة.

توطيد عبد الرحمن الداخل الإمارة :

بعد هزيمة يوسف الفهري والصميل وفرارهما من موقعة المصارة، توجه يوسف إلى طليطلة وحشد منها ما استطاع من أنصاره بمساعدة عامله عليها هشام بن عروة الفهري، وتوجه الصميل إلى جيان وجمع فيها أنصاره ومؤيديه. ثم اجتمعت القوتان وتوجهتا إلى إلبيرة. وكانت خطتهما أن يجذبا عبد الرحمن من قرطبة إلى جيان لقتالهما، ثم يذهب عبد الرحمن بن يوسف الفهري ليحتل قصر الإمارة في قرطبة. وبالفعل عندما علم عبد الرحمن الداخل بإجتماعهما توجه إليهما سنة 139 هـ، بعد أن ترك قوة صغيرة لحماية قرطبة بقيادة أبي عثمان. لكنه ما أن ابتعد قليلاً حتى هاجم عبد الرحمن بن يوسف الفهري قرطبة واحتل قصر الإمارة، وأسر أبا عثمان وكبله بالأغلال. وعندما علم عبد الرحمن الداخل بما حل بقرطبة عاد مسرعًا إلى قرطبة، ففر ابن يوسف الفهري إلى أبيه في إلبيرة ومعه أبو عثمان. عندئذ، غادر عبد الرحمن الداخل قرطبة، وتوجه إلى الصميل ويوسف في إلبيرة وحاصرهما، فطلبا الصلح على أن يعترفا بإمارته، ولا ينازعاه فيها، وأن يؤمنهما على النفس والمال والأهل، وأن يؤمن حلفاءهما وأعوانهما ويسمح لهما بسكنى قرطبة تحت رعايته ورقابته. وقد قبل عبد الرحمن على أن يقدم يوسف ولديه عبد الرحمن وأبي الأسود محمد رهينتين عنده يعتقلهما في قصر قرطبة كضمان للوفاء بعهده، وأن يفرج عبد الرحمن الداخل عن خالد بن زيد أحد قادة يوسف الفهري في مقابل أن يفرج يوسف عن أبي عثمان. وتم الصلح بين الفريقين عام 140 هـ. وقفل يوسف والصميل مع عبد الرحمن الداخل إلى قرطبة وأنفض جندهما، ونزل يوسف بشرقي قرطبة في قصر الحر الثقفي، ونزل الصميل بداره بالربض وعمل عبد الرحمن علي إكرامهما وتقدير مكانتهما.
ولم يمض عام حتى حاول أنصار يوسف السابقين حمله على الثورة على عبد الرحمن، فكاتب يوسف أهل ماردة ولقنت، فأجابوه وكتبوا إليه، فهرب إليهم سنة 141 هـ. ولما علم عبد الرحمن بهربه أتبعه الخيل وقبض على ابنه واعتقل الصميل تحسبًا لأي خطر قد يشارك فيه الصميل. تقدم يوسف نحو إشبيلية وحاصرها وكان واليها عبد الملك بن عمر المرواني الذي طلب من ابنه والي مورور نجدته. ففك يوسف الحصار ليتوجه إلى عبد الرحمن الداخل. لكن عبد الملك وابنه زحفا خلف يوسف الذي رأي التخلص منهما أولاً، ودارت بينهما معركة، انهزم فيها يوسف، وتفرق من معه.وفر يوسف إلى طليطلة ليحتمي بها عند هشام بن عروة الفهري والي طليطلة، فأدركه عبد الله بن عمر الأنصاري قبل طليطلة بأربعة أميال فقتله، وبعث برأسه إلى عبد الرحمن الداخل. ثم أمر عبد الرحمن الداخل بقتل عبد الرحمن بن يوسف المعتقل لديه، كما خنق الصميل في سجنه، وقتل جميع أنصار يوسف الفهري.

الثورات ضد عبد الرحمن الداخل :

وفي أواخر عام 143 هـ، ثار القاسم بن يوسف بن عبد الرحمن الفهري وحليف أبيه رزق بن النعمان الغساني في الجزيرة الخضراء على الأمير عبد الرحمن، الذي وجه إليهما من هزمهما، وفر القاسم وقتل الغساني. ثم ثار هشام بن عروة الفهري صاحب طليطلة، فسار إليه عبد الرحمن وشدد عليه الحصار حتى إضطر إلي طلب الصلح مقابل أخذ ابنه كرهينه عند عبد الرحمن. فقبل عبد الرحمن ذلك. ثم عاد هشام إلي نقض العهد. فغزاه الداخل في العام التالي، وشدد الحصار عليه ودعاه إلي الرجوع فلم يستجيب له. فلما يئس الأمير منه أمر بضرب عنق ابن هشام، وقذف الرأس بالمنجنيق في المدينة، ثم تركه لانشغاله بثورة العلاء بن مغيث اليحصبي الذي ثار عام 146 هـ في باجة بعد أن راسل الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور الذي كان يطمع في استعادة الأندلس، واستطاع أن يجمع حوله الناس والجند من أنصار الدولة العباسية، فاستولى على شذونة. فأرسل له عبد الرحمن الداخل جيشًا بقيادة مولاه بدر، فسيطر على المدينة، فتحرك العلاء بجيشه إلى إشبيلية ودخلها. فخرج عبد الرحمن من قرطبة في جميع قواته إلى قرمونة وتحصن بها ومعه ثقاة مواليه وخاصته، فسار إليه العلاء وحاصره العلاء بها شهرين، عندئذ خرج عبد الرحمن في 700 من رجاله ليرد الهجوم بعد أن خارت قوى جيش العلاء، فهزمهم وقتل العلاء. أمر عبد الرحمن بحز رأس العلاء ورؤوس أشراف أصحابه، ووضعت فيها صكوك بأسمائهم وحملوا بعضهم إلي أسواق القيروان ليلاً، والبعض الآخر وفيهم رأس العلاء إلي مكة مع بعض التجار الثقات ومعه الرسالة واللواء الذي أرسله المنصور إلى العلاءـ فوضعوه أمام سرادق المنصور الذي كان يحج ذلك العام. فلما رأي المنصور رأس العلاء انزعج وقال: «الحمد لله الذي جعل بيننا وبين هذا الشيطان بحرًا» .
ثم بعث عبد الرحمن مولاه بدر وتمام بن علقمة عام 147 هـ في جيش كثيف إلي طليطلة، فحاصرا هشام بن عروة الفهري حصارًا شديدًا، ومنعا الطعام عن أهل طليطلة، حتى ضج أهل المدينة من الحصار واستثقلوا الحرب، وكاتبوا تمام وبدر وسألوهما الأمان مقابل تسليم ابن عروة وبعض قادته لهما، فقبلا ذلك وحملوهم إلي قرطبة، فحلقت رؤوسهم ولحاهم وألبسوا جببًا صوفية وحملوا علي الحُمر، ودخلوا قرطبة علي هذا الحال حيث أمر عبد الرحمن بقتلهم، ليعلن بذلك نهاية تمرد ابن عروة الفهري.
وفي عام 149 هـ، ثار على الداخل سعيد اليحصبي في لبلة، وسار إليه عبد الرحمن بنفسه وأخمد ثورته. ومن بعده في نفس العام، ثار أبي الصباح اليحصبي الذي نقم من عبد الرحمن أن عزله عن ولاية إشبيلية، وهو الذي كان له عونًا وجمع له اليمانية يوم المصارة. لجأ الداخل معه إلى الحيلة، فبعث إليه عبد الله بن خالد يُأمنه. فلما دخلا قرطبة، أمر عبد الرحمن بقتل أبي الصباح. منذئذ، لزم عبد الله بن خالد داره حتى مات لمرارة في نفسه من خداع عبد الرحمن له واستعماله في استدراج أبي الصباح.
وفي عام 153 هـ، ثار البربر بزعامة رجل يقال شقيا بن عبد الواحد المكناسي كان معلمًا للصبيان، ثم إدعى بأنه فاطمي، فقتل عامل الأمير على ماردة ثم استولى على قورية. فسار إليه عبد الرحمن، ففر منه الفاطمي إلى الجبال ولم يتمكن منه لسنوات، إلى أن انكشف أمره لأصحابه فقتلوه. عندئذ، جاءته رسل مولاه بدر بثورة اليمانية بقيادة عبد الغافر اليحصبي وحيوة بن ملامس الحضرمي. فسيًر إليهم الداخل جيشًا هزمهم، وقتل حيوة، وفرّ عبد الغافر عبر البحر.[41] تلا ذلك محاولة ابن أخيه عبيد الله بن أبان بن معاوية وبعض معاونيه الانقلاب عليه في قرطبة وهو متنزهًا خارجها، فراسله مولاه بدر بالخبر وتمكن بدر من القبض عليهم، وأمر عبد الرحمن بضرب أعناقهم. ثم وجه الداخل عام 160 هـ قوة بقيادة تمام بن علقمة وأبي عثمان لقتال الفاطمي، واقتتلا وهزمهما الفاطمي، إلا أن رجلين من أصحابه تآمرا عليه وقتلاه بعد ذلك، لتنتهي ثورته.
في عام 161 هـ، نزل عبد الرحمن بن حبيب الصقلبي بجيشه ساحل تدمير، فسارع الداخل بمهاجمة ابن حبيب، فاستغاث ابن حبيب بوالي برشلونة سليمان الأعرابي، ولكن هذا الأخير لم ينجده. وبذلك استطاع عبد الرحمن أن يهزم ابن حبيب ويحرق سفنه عند ساحل تدمير.[44] ففر الصقلبي إلى كورة بلنسية، حيث اغتاله رجل من البربر طمعًا في عطية من الداخل.


شارلمان فشل في غزو شرق الأندلس، ثم تعاهد مع عبد الرحمن الداخل :

وفي عام 164 هـ، ثار عليه الرماحس بن عبد العزيز الكناني والي الجزيرة، فسار إليه عبد الرحمن بنفسه. فلما اقترب جيش عبد الرحمن، آثر الماحس الهرب، ففر بأهله عبر البحر ولجأ إلى أبي جعفر المنصور.وفي عام 168 هـ،بلغ عبد الرحمن الداخل بعد ذلك ائتمار ابن أخيه المغيرة بن الوليد بن معاوية وهذيل بن الصميل بن حاتم به ليخلعوه، فأمر بهم فاعتقلوا، ثم قتلهما،وسخط بسبب ذلك على أخيه الوليد بن معاوية فنفاه هو وبنيه إلى المغرب.ثم ثار عليه أبو الأسود محمد بن يوسف بن عبد الرحمن الفهري عام 169 هـ في قسطلونة، فخرج إليه الداخل وقاتله وهزمه، وقتل أربعة آلاف من أصحاب أبو الأسود الذي فر يومئذ. وفي عام 170 هـ، خرج الداخل لإخماد ثورة بربر نفزة، وهي آخر غزواته.

غزو شارلمان لشرق الأندلس :

ثار سليمان الأعرابي حاكم برشلونة ومعه الحسين بن يحيى الأنصاري زعيم سرقسطة على الداخل، فأرسل لهم جيشًا بقيادة ثعلبة بن عبيد الجذامي،فهزموا جيش الداخل وأسروا ثعلبة، وأرسلوا إلى شارلمان ملك الفرنجة المعروف في المراجع العربية باسم قارلة، يدعوه للتحالف معهم. فعبر بجيشه جبال البرانس، وأغار على البشكنس في بنبلونة. ثم أنه طمع في سرقسطة، فسار إليها، فاستقبله الأعرابي، إلا أن الحسين بن يحيى وأهل المدينة أبَوّ إلا أن يقاومه، ولم يسلمو له. حاصر شارلمان المدينة، لكنه لم يقدر على فتحها، فرجع إلى بلده وأخذ الأعرابي معه أسيرًا لأنه ورّطه في ذلك الأمر.وفي طريق عودته، دبر ابني سليمان وحلفائهم من البشكنس كمينًا دمروا به مؤخرة جيش شارلمان في معركة باب الشرزي، واستطاعوا تحرير الأعرابي والفرار به، إلا أن الحسين بن يحيى ما لبث أن ترصد للأعرابي وقتله بعد ذلك بفترة قصيرة.
ثم سار الداخل بجيشه إلى سرقسطة عام 165 هـ فحاصرها وشدد عليها الحصار، فضاق أهلها من الحصار. ففاوض الحسين بن يحيى وهو يومئذ قائدهم، عبد الرحمن الداخل فك الحصار وأن يأخذ ابنه سعيد رهنًا. فقبل الداخل، إلا أن سعيد هرب بعد يوم واحد فقط. فعاد الحسين إلى الثورة، فحاصره جيش الداخل مجددًا، إلى أن ملّ أهل سرقسطة الحصار، وسلموا الحسين إلى الداخل فقتله، وقفل راجعًا إلى قرطبة.

وفات عبد الرحمن الداخل :

توفي عبد الرحمن الداخل في 24 ربيع الآخر عام 172 هـ وترك من الولد أحد عشر ولدًا منهم سليمان وهو أكبر ولده، وهشام والمنذر ويحيى وسعيد وعبد الله وكليب، ومن البنات تسع. وقد دفن في قصر قرطبة بعد أن صلى عليه ولده عبد الله. وخلفه من بعده ولده هشام الملقب بهشام الرضا بعهد من والده، رغم أن أخاه سليمان كان أسن منه.

أعمال عبد الرحمن الداخل :

اتبع عبد الرحمن الداخل سنة أسلافه من الأمويين في نظام الحكم، فاتخذ حُجّابًا، ولم يتخذ وزراء. واحتفظ دومًا بمجموعة من المستشارين، أغلبهم ممن استقبلوه وناصروه في بداية عهده وقاتلوا معه.وقد اهتم بجيشه الذي كان الدعامة التي ساعدته على السيطرة على مقاليد الأمر طوال حكمه، فبلغ جيش عبد الرحمن الداخل مائة ألف جندي من المتطوعين والمرتزقة، لاسترابته من العرب بسبب نزعاتهم المستمرة للثورة. إضافة إلى حرسه الخاص الذي بلغ أربعين ألفًا من الموالي والبربر والرقيق. كما أنشأ في أواخر عهده عددًا من قواعد بناء السفن في طركونة وطرطوشة وقرطاجنة وإشبيلية.


مسجد قرطبة أسسه عبد الرحمن الداخل عام 170 هـ :

بني عبد الرحمن قصر الرصافة في أول حكمه، وسماه الرصافة كرصافة جده هشام بن عبد الملك الذي بناه في الشام، وأحاطه بالحدائق الزاهرة التي جلب لها الغروس والزروع والنوى لم تكن من قبل في الأندلس من الشام وإفريقية. وفي عام 150 هـ، أقام سور قرطبة الكبير، الذي حصّن به قرطبة، واستمر العمل به لأعوام. وفي عام 170 هـ، أسس الأمير عبد الرحمن المسجد الجامع في قرطبة، وأنفق على بناءه 100 ألف دينار وقيل 80 ألف دينار. وكان المسلمون حين افتتحوا قرطبة، قد شاطروا أهلها كنيستهم العظمى، فابتنوا فيه مسجدًا. ولما كثرت عمارة قرطبة، ضاق المسجد على مرتاديه، فابتاع الداخل الشطر الثاني من النصارى بمائة ألف دينار، فأسس عليها الجامع، وتمت أسواره في عام، وأمر ببناءه على طراز المسجد الأموي بدمشق.وقد بلغت مساجد قرطبة في عهده 490 مسجدًا.كما أنشأ دارًا لسك العملة، تضرب فيها النقود بحسب ما كانت تضرب في دمشق في عهد بني أمية وزنًا ونقشًا.

جامع قرطبة 
  جامع قرطبة من الداخل

النقش في القبة 

لم تحدث عبد الرحمن الداخل نفسه بالخلافة، حيث كان يرى بأنه لا يستحقها إلا من ملك الحرمين، ولم يقطع الخطبة للخليفة العباسي حتى عام 139 هـ، بعد عشرة أشهر من حكمه، بعد أن أشار عليه قادته بقطعها، بل ألح بعضهم على ذلك، حتى أن عبد الملك بن عمر المرواني هدده بقتل نفسه إن لم يقطعها. أما فيما يتعلق بعلاقاته الخارجية، فبعد أن فشلت حملة شارلمان على شرق الأندلس، وهزيمة جيشه في معركة باب الشرزي. دعاه عبد الرحمن الداخل إلى السلم والمصاهرة، لتوطيد العلاقة بين الدولتين، فأجابه شارلمان إلى السلم، ولم يجبه إلى المصاهرة.
في زمنه دخل الغازي بن قيس الأندلس بموطأ مالك وبقراءة نافع بن أبي نعيم.

صفات عبد الرحمن الداخل  وشخصيته :

وصفه ابن زيدون فقال «كان أصهب، خفيف العارضين، بوجهه خال، طويل القامة، نحيف الجسم، له ضفيرتين، أعور، أخشم.» وقال عنه ابن حيان القرطبي: «كان كثير الكرم، عظيم السياسة، يلبس البياض ويعتم به، ويعود المرضي، ويشهد الجنائز، ويصلي بالناس في الجمعة والأعياد، ويخطب بنفسه». نقش خاتمه: «عبد الرحمن بقضاء الله راض»،وقيل «بالله يثق عبد الرحمن، وبه يعتصم». وقد عرف بلقب «صقر قريش»، ذلك أنه جلس أبو جعفر المنصور يومًا في أصحابه، فسألهم: «أتدرون من هو صقر قريش؟»، فقالوا له: «أمير المؤمنين الذي راض الملك، وسكّن الزلازل، وحسم الأدواء، وأباد الأعداء». قال: «ما صنعتم شيئًا»، قالوا: «فمعاوية»، قال: «ولا هذا»، قالوا: «فعبد الملك بن مروان»، قال: «لا». قالوا: «فمن يا أمير المؤمنين»، قال: «عبد الرحمن بن معاوية الذي تخلّص بكيده عن سنن الأسنة، وظُبات السيوف. يعبر القفر، ويركب البحر، حتى دخل بلدًا أعجميًا. فمصّر الأمصار، وجنّد الأجناد، وأقام ملكًا بعد انقطاعه بحسن تدبيره، وشدة عزمه. إن معاوية نهض بمركب حمله عليه عمر وعثمان، وذللا له صعبه. وعبد الملك ببيعة تقدمت له. وأمير المؤمنين بطلب عترته، واجتماع شيعته. وعبد الرحمن منفردًا بنفسه، مؤيدٌ برأيه، مستصحبًا عزمه.»
كان عبد الرحمن بن معاوية وافر العزم والدهاء والحزم والصرامة، شديد الحذر، قليل الطمأنينة، فتمكن بحملاته المتوالية على المتمردين على سلطته سواء من العرب أو البربر، التي استخدم فيها كل الوسائل المتاحة لإقرار الأمر في يده، بما في ذلك سلاح الغدر والاغتيال وإزهاق الأرواح دون تردد، مكرسًا بذلك مفهوم المكيافيلية بكل معانيه فغيّر بذلك فكرة الاندفاع وراء العصبية والقبلية التي كانت سائدة في ذاك الوقت، إلى الخضوع والانقياد للسلطة الحاكمة في قرطبة. إلا أنه رغم تلك الطباع القاسية، كان يقعد للعامة ويستمع منهم، وينظر بنفسه فيما بينهم. وكان من عاداته، أن يأكل معه من أصحابه من أدرك وقت طعامه، ومن وافق ذلك من طلاب الحوائج أكل معه. كما كان لين الجانب مع النصاري، يسير معهم بسياسة الاعتدال والمهادنة، فجعل لهم رئيسًا يسمى "القومس"، يقيم إلى جواره في قرطبة ويستشيره في كثير من الأمور
كان عبد الرحمن أيضًا شاعرًا مجيدًا له شعر مشهور منه هذه الأبيات التي تعبر عن شوقه لربوع الشام التي نشأ فيها، حيث قال:
أيها الركـب الميــمم أرضـــي              أقر من بعضي الســــلام لبعضي
إن جسمـي كما علمت بأرض              وفــــــــــؤادي ومـالـكيــه بأرض
قـدّر البيـــن بيننـا فافترقنــــا               وطوى البين عن جفوني غمضي

قد قضى الله بالفراق علينــــا                فعسى باجتمـاعنا ســوف يقضي


المصدر : من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة

يوسف بن تاشفين ,, أسس أول إمبراطورية في الغرب الإسلامي


يوسف بن تاشفين ,, أسس أول إمبراطورية في الغرب الإسلامي


نسب يوسف بن تشافين :

هو يوسف بن تاشَفين ناصر الدين بن تالاكاكين الصنهاجي (ح. 1006 - 1106) ثاني ملوك المرابطين بعد أبو بكر بن عمر. واتخذ لقب "أمير المسلمين" وهو اعظم ملك مسلم في وقته. أسس أول إمبراطورية في الغرب الإسلامي من حدود تونس حتى غانا جنوبا والأندلس شمالا وانقذ الأندلس من ضياع محقق وهو بطل معركة الزلاقة وقائدها. وحد وضم كل ملوك الطوائف في الأندلس إلى دولته بالمغرب (ح. 1090) بعدما استنجد به أمير أشبيلية.
عرف بالتقشف والزهد والشجاعة. قال "الذهبي" في "سير أعلام النبلاء": كان ابن تاشفين كثير العفو، مقربًا للعلماء، وكان أسمر نحيفًا، خفيف اللحية، دقيق الصوت، سائسًا، حازمًا، يخطب لخليفة العراق...
ووصفه "بدر الشيخ" في "الكامل في التاريخ" بقوله: كان حليمًا كريمًا، دينًا خيرًا، يحب أهل العلم والدين، ويحكّمهم في بلاده، ويبالغ في إكرام العلماء والوقوف عند إشارتهم، وكان إذا وعظه أحدُهم، خشع عند استماع الموعظة، ولان قلبُه لها، وظهر ذلك عليه، وكان يحب العفو والصفح عن الذنوب العظام...

نشأة يوسف بن تاشفين :

ينتمي يوسف بن تاشفين إلى قبيلة لمتونة؛ وهي إحدى قبائل صنهاجة الموجودة بجبل لمتونة المشهور باسم أدرار بموريتانيا، وُلِدَ على الأرجح بصحراء موريتانيا، ونشأ في موريتانيا نشأة إيمانية جهادية، وأصله من قبائل «صنهاجة اللثام» البربرية

يوسف بن تاشفين (وقيام دولة المرابطين في المغرب) :

يعتبر يوسف بن تاشفين بحق واحداً من عظماء المسلمين الذين جددو للأمة الإسلامية نهضتها وأعادوا لها تألقها وقوتها . وشخصية يوسف بن تاشفين شخصية إسلامية متميزة استجمعت من خصائل الخير وجوامع الفضيلة ما ندر أن يوجد مثلها في شخص مثله. فيوسف بن تاشفين أبو يعقوب لا يقل عظمة عن يوسف بن أيوب الملقب بصلاح الدين الأيوبي، وإذا كان الأخير قد ذاع صيته في المشرق الإسلامي وهو يقارع الصليبيين ويوحد المسلمين، فإن الأول قد انتشر أمره في المغرب الإسلامي وهو يقارع الإسبان والمارقين من الدين وملوك الطوائف ويوحد المسلمين في زمن كان المسلمون فيه أحوج ما يكونون إلى أمثاله. نشأ يوسف بن تاشفين في موريتانيا نشأة إيمانية جهادية، وأصله من قبائل «صنهاجه اللثام» البربرية.
كانت الظروف السياسية السائدة في زمن يوسف بن تاشفين غاية في التعقيد وغلب عليها تعدد الولاءات وانقسام العالم الإسلامي وسيطرة قوى متناقضة على شعوبه. ففي بغداد كانت الخلافة العباسية من الضعف بمكان بحيث لا تسيطر على معظم ولاياتها، وفي مصر ساد الحكم الفاطمي، وفي بلاد الشام بدأت بواكير الحملات الصليبية بالنزول في سواحل الشام، وفي الأندلس استعرت الخصومة والخيانة وعم الفساد بين ملوك طوائفها، وأما في بلاد المغرب الإسلامي حيث نشأ وترعرع فكانت قبائل مارقة من الدين تسيطر على الشمال المغربي، وتحصن مواقعها في ا لمدن الساحلية كسبتة وطنجة ومليلة، وهي من آثار الدولة العبيدية الفاطمية التي تركت آثاراً عقيدية منحرفة تمثلت في جزء منها بإمارة تسمى الإمارة البرغواطية سيطرت على شمال المغرب وبنت أسطولاً قوياً لها وحصنت قواتها البحرية المطلة على مضيق جبل طارق. وفي عام 445هـ أسّس عبد الله بن ياسين حركة المرابطية (الرباط في سبيل الله)، وبعد عشر سنوات تسلم قيادة الحركة يوسف بن تاشفين، فبدأ بتعمير البلاد وحكمها بالعدل، وكان يختار رجالاً من أهل الفقه والقضاء لتطبيق الإسلام على الناس، واهتم ببناء المساجد باعتبارها مراكز دعوة وانطلاق وتوحيد للمسلمين تحت إمارته، ثم بدأ يتوسع شرقاً وجنوباً وشمالاً فكانت المواجهة بينه وبين الإمارة البرغواطية الضالة أمراً لا مفر منه. استعان ابن تاشفين في البداية بالمعتمد بن عباد - وهو أحد أمراء الأندلس الصالحين - لمحاربة البرغواطيين، فأمدّه المعتمد بقوة بحرية ساعدته في القضاء على الإمارة الضالة، وهكذا استطاع أن يوحد كل المغرب حتى مدينة الجزائر شرقاً، وحتى غانا جنوباً، وكان ذلك عام 476هـ.


الأندلس :

بعد أن قوي ساعد يوسف بن تاشفين واستقرت دولته وتوسعت، لجأ إليه مسلمو الأندلس طالبين الغوث والنجدة، حيث كانت أحوال الأندلس تسوء يوماً بعد يوم، فملوك الطوائف لقبوا أنفسهم بالخلفاء، وخطبوا لأنفسهم على المنابر، وضربوا النقود بأسمائهم، وصار كل واحدٍ منهم يسعى للاستيلاء على ممتلكات صاحبه، لا يضره الاستعانة بالإسبان النصارى أعداء المسلمين لتحقيق أهدافه، واستنابوا الفساق، واستنجدوا بالنصارى وتنازلوا لهم عن مداخل البلاد ومخارجها. وأدرك النصارى حقيقة ضعفهم فطلبوا منهم المزيد. ولقد استجاب ابن تاشفين لطلب المسلمين المستضعفين، وفي ذلك يقول الفقيه ابن العربي: «فلبّأهم أمير المسلمين ومنحه اللـه النصر، وألجم الكفار السيف، واستولى على من قدر عليه من الرؤساء من البلاد والمعاقل، وبقيت طائفة من رؤساء الثغر الشرقي للأندلس تحالفوا مع النصارى، فدعاهم أمير المسلمين إلى الجهاد والدخول في بيعة الجمهور، فقالوا: لا جهاد إلا مع إمام من قريش ولستَ به، أو مع نائبه وما أنت ذلك، فقال: أنا خادم الإمام العباسي، فقالوا له: أظهر لنا تقديمه إليك، فقال: أو ليست الخطبة في جميع بلادي له؟ فقالوا: ذلك احتيال، ومردوا على النفاق».
 
وكان - يوسف بن تاشفين - رحمه الله بطلا نجداً شجاعاً حازماً مهاباً ضابطاً لملكه، متفقداً الموالي من رعيته، حافظاً لبلاده وثغوره، مواظباً على الجهاد، مؤيداً منصوراً، جواداً كريماً سخياً.. خـُطب به بالأندلس والمغرب على ألف منبر وتسعمائة منبر. وكان ملكه من مدينة افراغة أول بلاد الإفرنج قاصية شرق بلاد الأندلس إلى آخر عمل شنترين والاشبونة على البحر المحيط من بلاد غرب الأندلس.. وملك بالمغرب من بلاد العدوة من جزائر بني مزغنة إلى طنجة إلى آخر السوس الأقصى، إلى جبل الذهب من بلاد السودان. ابن أبي زرع - "روض القرطاس"

وحتى يكون ابن تاشفين أميراً شرعياً أرسل إلى الخليفة العباسي يطلب منه توليته. ويقول السيوطي في كتابه تاريخ الخلفاء: «وفي سنة تسع وسبعين أرسل يوسف بن تاشفين صاحب سبتة ومراكش إلى المقتدي يطلب أن يسلطنه وأن يقلده ما بيده من البلاد فبعث إليه الـخُلَعَ والأَعلام والتقليدَ ولقّبه بأمير المسلمين، ففرح بذلك وسُر به فقهاء المغرب». وبعد أن زاد ضغط النصارى الإسبان القادمين من الشمال استنجد بابن تاشفين المعتمد بن عباد، ونُقِلَ عنه في كتاب دراسات في الدولة العربية في المغرب والأندلس أنه قال: «رعي الـجِمال عندي خير من رعي الخنازير» وذلك كناية عن تفضيله للسيادة الإسلامية، ودخل المعتمد مع ابن تاشفين الأندلس شمالاً وقاد ابن تاشفين الجيوش الإسلامية وقاتل النصارى قتالاً شديداً وكانت موقعة الزلاقة من أكبر المعارك التي انتصر فيها المسلمون انتصاراً كبيراً على الإسبان، وهُزم ملكهم الفونسو السادس هزيمة منكرة. وعلى أثر هذه الموقعة خَلَعَ ابنُ تاشفين جميعَ ملوك الطوائف من مناصبهم ووحّد الأندلس مع المغرب في ولاية واحدة لتصبح: أكبر ولاية إسلامية في دولة الخلافة.


تسمية يوسف بن تاشفين (أمير المسلمين) :

يقول صاحب الحُلَل الـمَوْشِيّة: (ولما ضخمت مملكة يوسف بن تاشفين واتسعت عمالته، اجتمعت إليه أشياع قبيلته، وأعيان دولته، وقالت له: أنت خليفة الله في أرضه، وحقك أكبر من أن تدعى بالأمير، بل ندعوك بأمير المؤمنين. فقال لهم: حاشا للـه أن نتسمى بهذا الاسم، إنما يتسمى به خلفاء بني العباس لكونهم من تلك السلالة الكريمة، ولأنهم ملوك الحرمين مكة والمدينة، وأنا راجلهم والقائم بدعوتهم، فقالوا له: لا بد من اسم تمتاز به، فأجاب إلى «أمير المسلمين وناصر الدين» وخطب لهم بذلك في المنابر وخوطب به من العُدْوَتَيْن - أي المغرب والأندلس -). يقول السلامي الناصري في الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى: «إنما احتاج أمير المسلمين إلى التقليد من الخليفة العباسي مع أنه كان بعيداً عنه، وأقوى شوكة منه، لتكون ولايته مستندة إلى الشرع… وإنما تسمى بأمير المسلمين دون أمير المؤمنين أدباً مع الخليفة حتى لا يشاركه في لقبه، لأن لقب أمير المؤمنين خاص بالخليفة، والخليفة من قريش».


النقد الشرعي :

من علامات التقوى والتمسك بأهداب الدين تمسك الأمراء والحكام بالنقد الشرعي، وفي ذلك يقول ابن الخطيب في كتابه الإحاطة: (كان درهمه فضة، وديناره تبراً محضاً، في إحدى صفحتيه «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، وتحت ذلك «أمير المسلمين يوسف بن تاشفين»، وفي الدائر ]ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين[، وفي الصفحة الأخرى «الإمام عبد اللـه أمير المؤمنين» وفي الدائرة «تاريخ ضربه وموضع سكه»). وعبد الله اصطلاحاً هو كنية يصلح لاسم كل خليفة عباسي.
اتخذ يوسف السواد شعاراً للمرابطين، وهو نفس شعار الدولة العباسية، ورفع شعار السواد يدل على التمسك بالسنة والتمسك بالوحدة وعدم شق جماعة المسلمين، إضافة إلى أن راية رسول الله كانت سوداء. ذاع صيت ابن تاشفين بين العلماء والقضاة بشكل خاص وبين الناس بشكل عام فتناقلوا أخباره وصفاته، وتواتر عنهم نقل صفات الجهاد والعدل والزهد والإخلاص والتمسك بالإسلام وبدولة المسلمين الشرعية، حتى أثنى عليه معظم العلماء والفقهاء.


قالوا في يوسف بن تاشفين :

جاء في الخطاب المطول الذي رفعه الفقيه المعروف بابن العربي واسمه عبد الله بن عمر: «… الأمير أبو يعقوب بن تاشفين المتحرك بالجهاد، المتجهز إلى المسلمين باستئصال فئة العناد، ولمة الفساد، قام بدعوة الإمامة العباسية والناس أشياع، وقد غلب عليهم قوم دعوا إلى أنفسهم ليسوا من الرهط الكريم ولا من شعبه الطاهر الصميم، فنبّه جميع من كان في أفق قيامه بالدعوة الإمامية العباسية، وقاتل من توقف عنها منذ أربعين عاماً إلى أن صار جميع من في جهة المغارب على سعتها وامتدادها له طاعة، واجتمعت بحمد اللـه على دعوته الموفقة الجماعة، فيخطب الآن للخلافة، بسط الله أنوارها، وأعلى منارها على أكثر من ألفي منبر وخمسمائة منبر، فإن طاعته ضاعفها الله من أول بلاد الله الإفرنج، استأصل اللـه شأفتهم، ودمّر جملتهم إلى آخر بلاد السوس مما يلي غانة، وهي بلاد معادن الذهب، والحافة بين الحدين المذكورين مسيرة خمسة أشهر، وله وقائع في جميع أصناف الشرك من الإفرنج وغيرهم، قد فللت غربهم، وقللت حزبهم، وألفت مجموعة حربهم، وهو مستمر على مجاهدتهم ومضايقتهم في كل أفق، وعلى كل الطرق، ولقد وصل إلى ديار المشرق في هذا العام قاضٍ من قضاة المغرب يعرف بابن القاسم، ذكر من حال هذا الأمير ما يؤكد ما ذكرته، ويؤيد ما شرحته، وقد خصّه الله بفضائل، منها الدين المتين، والعدل المستبين، وطاعة الإمام، وابتداء جهاده بالمحاربة على إظهار دعوته، وجمع المسلمين على طاعته، والارتباط بحماية الثغور، وهو ممن يقسم بالسوية، ويعدل في الرعية، وواللـه ما في طاعته مع سعتها دانٍ منه، ولا ناءٍ عنه من البلاد ما يجري فيه على أحد من المسلمين رسم مَكْسٍ، وسبل المسلمين آمنة، ونقوده من الذهب والفضة سليمة من الشرب، مطرزة باسم الخلافة ضاعف اللـه تعظيمها وجلالها. هذه حقيقة حاله واللـه يعلم أني ما أسهبت ولا لغوت بل لعلي أغفلت أو قصرت». وجاء رد الخليفة بخط يده وبمداد ممسك: «… إن ذلك الولي الذي أضحى بحبل الإخلاص معتصماً، ولشرطه ملتزماً، وإلى أداء فروضه مسابقاً، وكل فعله فيما هو بصدده للتوفيق مساوقاً، لا ريبة في اعتقاده، ولا شك في تقلده من الولاء، طويل نجاده، إذا كان من غدا بالدين تمسكه، وفي الزيادة عنه مسلكه، حقيقاً بأن يستتب صلاح النظام على يده، ويستشف من يومه حسن العقبى في غده، وأفضل من نحاه، وعليه من الاجتهاد دار رحاه، جهاد من يليه من الكفار، وإتيان ما يقضي عليهم بالاجتياح والبوار، اتباعاً لقول القرآن: ﴿قاتلوا الذين يلونكم من الكفار﴾ فهذا هو الواجب اعتماده، الذي يقوم به الشرع عماده».

وللغزالي قول فيه رد على طلب ابن العربي منه لفتوى بحقه نقتبس منه: «لقد سمعت من لسانه -ابن العربي- وهو الموثوق به، الذي يستغنى مع شهادته عن غيره، وعن طبقة من ثقاة المغرب الفقهاء وغيرهم من سيرة هذا الأمير أكثر الله في الأمراء أمثاله، ما أوجب الدعاء لأمثاله، فلقد أصاب الحق في إظهار الشعار الإمام المستظهري، وإذا نادى الملك المستولي بشعار الخلافة العباسية وجب على كل الرعايا والرؤساء الإذعان والانقياد، ولزمهم السمع والطاعة، وعليهم أن يعتقدوا أن طاعته هي طاعة الإمام، ومخالفته مخالفة الإمام، وكل من تمرد واستعصى وسل يده عن الطاعة فحكمه حكم الباغي، وقد قال اللـه الله: ﴿وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله﴾ والفيئة إلى أمر الله الرجوع إلى السلطان العادل المتمسك بولاء الإمام الحق المنتسب إلى الخلافة العباسية، فكل متمرد على الحق فإنه مردود بالسيف إلى الحق، فيجب على الأمير وأشياعه قتال هؤلاء المتمردة عن طاعته لا سيما وقد استنجدوا بالنصارى المشركين أوليائهم، وهم أعداء الله في مقابلة المسلمين الذين هم أولياء اللـه، فمن أعظم القربات قتالهم إلى أن يعودوا إلى طاعة الأمير العادل المتمسك بطاعة الخلافة العباسية، ومهما تركوا المخالفة وجب الكف عنهم، وإذا قاتلوا لم يجز أن يتبع مدبرهم، ولا أن (ينزف) على جريحهم…. وأما من يظفر به من أموالهم فمردود عليهم أو على ورثتهم، وما يؤخذ من نسائهم وذراريهم في القتال مهدرة لا ضمان فيها… ويجب على حضرة الخليفة التقليد فإن الإمام الحق عاقلة أهل الإسلام، ولا يحل له أن يترك في أقطار الأرض فتنة ثائرة إلا ويسعى في إطفائها بكل ممكن. قال عمر رضي اللـه عنه: «لو تركت جرباء على ضفة الفرات لم تُطل بالهناء -القِطر- فأنا المسؤول عنها يوم القيامة». فقال عمر بن عبد العزيز: «خصماؤك يا أمير المؤمنين»، يعني أنك مسؤول عن كل واحد منهم إن ضيعت حق اللـه فيهم أو أقمته فلا رخصة في التوقف عن إطفاء الفتنة في قرية تحوي عشرة فكيف في أقاليم».

المصدر : من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة


© Copyright قصص تطوير
Back To Top