Pages

عبد الرحمن الداخل .. صقر قريش


تمثال عبد الرحمن الداخل في اسبانيا


عبد الرحمن الداخل .. صقر قريش


عبد الرحمن الداخل الملقب صقر قريش ، والمعروف أيضًا في المصادر الأجنبية بلقب عبد الرحمن الأول. أسس عبد الرحمن الداخل  الدولة الأموية في الأندلس عام 138 هـ،  بعد أن فر من الشام إلى الأندلس في رحلة طويلة استمرت ست سنوات ، بعد سقوط الدولة الأموية في دمشق عام 132 هـ ، وتتبع العباسيون أمراء بني أمية وقتلهم , دخل عبد الرحمن الأندلس وهي تتأجج بالنزاعات القبلية والتمردات على الولاة ، فقضى عبد الرحمن في فترة حكمه التي استمرت 33 عامًا ، في إخضاع الثورات المتكررة على حكمه في شتى أرجاء الأندلس ، تاركًا لخلفائه إمارة استمرت لنحو ثلاث قرون .

نسب عبد الرحمن الداخل ونشأته :

نسبه هو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب. كنيته: أبو المطرف وقيل أبا زيد وقيل أبا سليمان وكانت أمه سبية بربرية من قبيلة نفزة اسمها راح أو رداح.
ولد سنة 113 هـ/731 م في خلافة جده هشام بن عبد الملك، في بلاد الشام عند قرية تعرف بدير حنا، وقيل ولد بالعليا من أعمال تدمر.توفي أبوه شاباً عام 118 هـ[ في خلافة أبيه هشام بن عبد الملك، فنشأ عبد الرحمن في بيت الخلافة الأموي بدمشق حيث كفله وإخوته جده هشام. وكان جده يؤثره على بقية إخوته ويتعهده بالصلات والعطايا في كل شهر حتى وفاته.
ويروى أن عم أبيه الفارس مسلمة بن عبد الملك والذى كان له باعاً طويلاً في علم الحدثان قد وصلته نبوءة تقول بأن عدواً سيأتى من الشرق ويقضي على الحكم الأموي ، إلا أن فتاً أموياً سوف يتمكن من إقامته من جديد في بلاد الأندلس٬ وعندما نظر مسلمة إلى عبد الرحمن لأول مرة في رصافة هشام بعد وفاة أبيه رأى في وجهه العلامات التى تدل على أنه الأموى المقصود.
وعندما أقام العباسيون دولتهم على أنقاض الدولة الأموية، هدفوا إلى تعقب الأمويين والقضاء عليهم خشية أن يحاولوا استرداد ملكهم، فقتلوا بعضهم مما جعل الباقين منهم يستترون. حينئذ، أظهر العباسيون الندم على ما كان منهم، وأشاعوا أنهم أمّنوا من بقي من الأمويين حتى اجتمع منهم بضع وسبعون رجلاً منهم أخ لعبد الرحمن يدعى يحيى، فأفنوهم.[وحين بلغ عبد الرحمن بن معاوية ذلك، هرب من منزله بدير حنا من أعمال قنسرين،[وأوصى بأن يتبع بولده سليمان وأختيه أم الأصبغ وأمة الرحمن. حتى بلغ قرية على الفرات، اختبأ بها. وذات يوم، اشتكى فيه عبد الرحمن الرمد، فلزم ظلمة داره، وإذا بابنه سليمان وهو ابن أربع سنين يدخل عليه فزعًا باكيًا، فتوجس عبد الرحمن وإذا برايات العباسيين في القرية، ودخل عليه أخ له صغير يخبره الخبر. فعمد عبد الرحمن إلى دنانير تناولها، ثم أعلم أختيه بمتوجهه، وفر هو وأخيه. بعدئذ، وشى به عبد من عبيده، تعقبته فرسان العباسيين، فلم يجدا أمامهما مهربًا إلا عبور النهر. وإذ هما في نصف النهر، أغرتهما الشرطة أن يرجعا ولهما الأمان، فرجع أخوه خشية الغرق، وغرر به وقتله العباسيون، وكان عمر أخيه ثلاث عشرة سنة، بينما نجح عبد الرحمن بالوصول إلى الضفة الأخرى. ثم ألحقت به أخته أم الأصبغ مولاه بدر ومولاها سالمًا بمال وشيء من الجواهر، فتوجه عبد الرحمن بالموليين صوب إفريقية.

فرار عبد الرحمن الداخل إلى المغرب :

استغل عبد الرحمن بن حبيب الفهري والي إفريقية سقوط الدولة الأموية ليستقل بحكم إفريقية. خشي الفهري ظهور الأمويين الفارّين من المشرق على ولايته، فتتبعهم بالقتل، فقَتَل منهم ابنين للوليد بن يزيد . لذا ظل عبد الرحمن يتنقل من مكان إلى مكان خمس سنين، بدءًا من نزوله على أخواله بني نفزة، وهم من بربر طرابلس، ثم على نزل على مكناسة وقيل مغيلة، حيث آواه أبو قرّة وانسوس المغيلي، لحمايته من متعقبيه.[ثم منها إلى قوم من زناتة منازلهم قرب البحر في سبتة.
وفي عام 136 هـ، أرسل مولاه بدرًا إلى موالي بني أمية في الأندلس يطلب عضضهم والتمهيد لدخوله الأندلس. فعرض بدر رسالة عبد الرحمن على أبي عثمان عبيد الله بن عثمان وعبد الله بن خالد وأبي الحجاج يوسف بن بخت زعماء موالي بني أمية في الأندلس، فأجابوه. وعرضوا الأمر على الصميل بن حاتم وكان من زعماء المضرية، غير أن الصميل خشي علي نفوذه من مجيء عبد الرحمن، فاستقر على ألا يجيبه. كان الأندلس حينئذ يغلي بسبب النزاعات المتواصلة بين القبائل المضرية واليمانية، فوافقت دعوة عبد الرحمن رغبة اليمانية المدفوعين بالرغبة في الثأر لهزيمتهم أمام الفهرية والقيسية في موقعة شقندة، فاحتشدوا لنصرة لعبد الرحمن. ثم أرسل زعماء الموالي مركبًا تعبر به إلى الأندلس، فوصل إلى ثغر المنكب في ربيع الثاني سنة 138 هـ.

دخول عبد الرحمن الداخل الأندلس :

بعد أن دخل عبد الرحمن الداخل الأندلس أتاه أبو عثمان وعبد الله بن خالد، وسارا به إلى حصن طرش منزل أبي عثمان التي أصبحت مركزًا لتجمع أنصاره. بلغ الخبر يوسف الفهري بوصول عبد الرحمن وتجمع الناس حوله، وعدم قدره عامله على إلبيرة على تفريقهم. فنصح الصميل يوسف بوجوب التوجه فورًا لملاقاة عبد الرحمن، فجمع يوسف جيشه. علم عبد الرحمن بمسير جيش يوسف، فتحرك بجيشه وأخضع كافة المدن في طريقه حتى إشبيلية التي استولى عليها وبايعه أهلها، فتجمع له ثلاثة آلاف مقاتل. ثم حاول مباغتة يوسف الفهري، ومهاجمة قرطبة ليستولي عليها والتقيا في موضع يبعد عن قرطبة نحو 45 ميلاً لا يفصلهما إلا النهر. حاول يوسف أن يغري عبد الرحمن الداخل لينصرف بجنده، بأن وعده بالمال وبأن يزوجه من إحدى بناته. إلا أن عبد الرحمن الداخل  رفض، وأسر خالد بن يزيد أحد رسل يوسف، لإغلاظه له القول وفي الليل، حاول عبد الرحمن الدخل أن يسبق بجنده جيش يوسف خلسة إلى قرطبة. علم بذاك يوسف فسار الجيشان بمحاذاة النهر صوب قرطبة، إلى أن انحسر الماء عند المصارة يوم الأضحى العاشر من ذي الحجة لعام 138 هـ، فعبر جيش عبد الرحمن الداخل ودارت المعركة التي انتهت بنصر عبد الرحمن الداخل , خلال المعركة أشيع بين الجنود أن عبد الرحمن الداخل يركب جوادًا سريعًا للفرار به وقت الهزيمة. فلما بلغ عبد الرحمن الداخل هذا الكلام ترك فرسه في الحال وقال: "إن فرسي قلق لا يتمكن معه الرمي!"، ثم ركب بغلاً ضعيفًا كي يقنع جنوده بأنه لن يولي ظهره للأعداء بعد انتصاره، دخل عبد الرحمن إلى قرطبة، وأدى الصلاة في مسجدها الجامع حيث بايعه أهلها على الطاعة.

توطيد عبد الرحمن الداخل الإمارة :

بعد هزيمة يوسف الفهري والصميل وفرارهما من موقعة المصارة، توجه يوسف إلى طليطلة وحشد منها ما استطاع من أنصاره بمساعدة عامله عليها هشام بن عروة الفهري، وتوجه الصميل إلى جيان وجمع فيها أنصاره ومؤيديه. ثم اجتمعت القوتان وتوجهتا إلى إلبيرة. وكانت خطتهما أن يجذبا عبد الرحمن من قرطبة إلى جيان لقتالهما، ثم يذهب عبد الرحمن بن يوسف الفهري ليحتل قصر الإمارة في قرطبة. وبالفعل عندما علم عبد الرحمن الداخل بإجتماعهما توجه إليهما سنة 139 هـ، بعد أن ترك قوة صغيرة لحماية قرطبة بقيادة أبي عثمان. لكنه ما أن ابتعد قليلاً حتى هاجم عبد الرحمن بن يوسف الفهري قرطبة واحتل قصر الإمارة، وأسر أبا عثمان وكبله بالأغلال. وعندما علم عبد الرحمن الداخل بما حل بقرطبة عاد مسرعًا إلى قرطبة، ففر ابن يوسف الفهري إلى أبيه في إلبيرة ومعه أبو عثمان. عندئذ، غادر عبد الرحمن الداخل قرطبة، وتوجه إلى الصميل ويوسف في إلبيرة وحاصرهما، فطلبا الصلح على أن يعترفا بإمارته، ولا ينازعاه فيها، وأن يؤمنهما على النفس والمال والأهل، وأن يؤمن حلفاءهما وأعوانهما ويسمح لهما بسكنى قرطبة تحت رعايته ورقابته. وقد قبل عبد الرحمن على أن يقدم يوسف ولديه عبد الرحمن وأبي الأسود محمد رهينتين عنده يعتقلهما في قصر قرطبة كضمان للوفاء بعهده، وأن يفرج عبد الرحمن الداخل عن خالد بن زيد أحد قادة يوسف الفهري في مقابل أن يفرج يوسف عن أبي عثمان. وتم الصلح بين الفريقين عام 140 هـ. وقفل يوسف والصميل مع عبد الرحمن الداخل إلى قرطبة وأنفض جندهما، ونزل يوسف بشرقي قرطبة في قصر الحر الثقفي، ونزل الصميل بداره بالربض وعمل عبد الرحمن علي إكرامهما وتقدير مكانتهما.
ولم يمض عام حتى حاول أنصار يوسف السابقين حمله على الثورة على عبد الرحمن، فكاتب يوسف أهل ماردة ولقنت، فأجابوه وكتبوا إليه، فهرب إليهم سنة 141 هـ. ولما علم عبد الرحمن بهربه أتبعه الخيل وقبض على ابنه واعتقل الصميل تحسبًا لأي خطر قد يشارك فيه الصميل. تقدم يوسف نحو إشبيلية وحاصرها وكان واليها عبد الملك بن عمر المرواني الذي طلب من ابنه والي مورور نجدته. ففك يوسف الحصار ليتوجه إلى عبد الرحمن الداخل. لكن عبد الملك وابنه زحفا خلف يوسف الذي رأي التخلص منهما أولاً، ودارت بينهما معركة، انهزم فيها يوسف، وتفرق من معه.وفر يوسف إلى طليطلة ليحتمي بها عند هشام بن عروة الفهري والي طليطلة، فأدركه عبد الله بن عمر الأنصاري قبل طليطلة بأربعة أميال فقتله، وبعث برأسه إلى عبد الرحمن الداخل. ثم أمر عبد الرحمن الداخل بقتل عبد الرحمن بن يوسف المعتقل لديه، كما خنق الصميل في سجنه، وقتل جميع أنصار يوسف الفهري.

الثورات ضد عبد الرحمن الداخل :

وفي أواخر عام 143 هـ، ثار القاسم بن يوسف بن عبد الرحمن الفهري وحليف أبيه رزق بن النعمان الغساني في الجزيرة الخضراء على الأمير عبد الرحمن، الذي وجه إليهما من هزمهما، وفر القاسم وقتل الغساني. ثم ثار هشام بن عروة الفهري صاحب طليطلة، فسار إليه عبد الرحمن وشدد عليه الحصار حتى إضطر إلي طلب الصلح مقابل أخذ ابنه كرهينه عند عبد الرحمن. فقبل عبد الرحمن ذلك. ثم عاد هشام إلي نقض العهد. فغزاه الداخل في العام التالي، وشدد الحصار عليه ودعاه إلي الرجوع فلم يستجيب له. فلما يئس الأمير منه أمر بضرب عنق ابن هشام، وقذف الرأس بالمنجنيق في المدينة، ثم تركه لانشغاله بثورة العلاء بن مغيث اليحصبي الذي ثار عام 146 هـ في باجة بعد أن راسل الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور الذي كان يطمع في استعادة الأندلس، واستطاع أن يجمع حوله الناس والجند من أنصار الدولة العباسية، فاستولى على شذونة. فأرسل له عبد الرحمن الداخل جيشًا بقيادة مولاه بدر، فسيطر على المدينة، فتحرك العلاء بجيشه إلى إشبيلية ودخلها. فخرج عبد الرحمن من قرطبة في جميع قواته إلى قرمونة وتحصن بها ومعه ثقاة مواليه وخاصته، فسار إليه العلاء وحاصره العلاء بها شهرين، عندئذ خرج عبد الرحمن في 700 من رجاله ليرد الهجوم بعد أن خارت قوى جيش العلاء، فهزمهم وقتل العلاء. أمر عبد الرحمن بحز رأس العلاء ورؤوس أشراف أصحابه، ووضعت فيها صكوك بأسمائهم وحملوا بعضهم إلي أسواق القيروان ليلاً، والبعض الآخر وفيهم رأس العلاء إلي مكة مع بعض التجار الثقات ومعه الرسالة واللواء الذي أرسله المنصور إلى العلاءـ فوضعوه أمام سرادق المنصور الذي كان يحج ذلك العام. فلما رأي المنصور رأس العلاء انزعج وقال: «الحمد لله الذي جعل بيننا وبين هذا الشيطان بحرًا» .
ثم بعث عبد الرحمن مولاه بدر وتمام بن علقمة عام 147 هـ في جيش كثيف إلي طليطلة، فحاصرا هشام بن عروة الفهري حصارًا شديدًا، ومنعا الطعام عن أهل طليطلة، حتى ضج أهل المدينة من الحصار واستثقلوا الحرب، وكاتبوا تمام وبدر وسألوهما الأمان مقابل تسليم ابن عروة وبعض قادته لهما، فقبلا ذلك وحملوهم إلي قرطبة، فحلقت رؤوسهم ولحاهم وألبسوا جببًا صوفية وحملوا علي الحُمر، ودخلوا قرطبة علي هذا الحال حيث أمر عبد الرحمن بقتلهم، ليعلن بذلك نهاية تمرد ابن عروة الفهري.
وفي عام 149 هـ، ثار على الداخل سعيد اليحصبي في لبلة، وسار إليه عبد الرحمن بنفسه وأخمد ثورته. ومن بعده في نفس العام، ثار أبي الصباح اليحصبي الذي نقم من عبد الرحمن أن عزله عن ولاية إشبيلية، وهو الذي كان له عونًا وجمع له اليمانية يوم المصارة. لجأ الداخل معه إلى الحيلة، فبعث إليه عبد الله بن خالد يُأمنه. فلما دخلا قرطبة، أمر عبد الرحمن بقتل أبي الصباح. منذئذ، لزم عبد الله بن خالد داره حتى مات لمرارة في نفسه من خداع عبد الرحمن له واستعماله في استدراج أبي الصباح.
وفي عام 153 هـ، ثار البربر بزعامة رجل يقال شقيا بن عبد الواحد المكناسي كان معلمًا للصبيان، ثم إدعى بأنه فاطمي، فقتل عامل الأمير على ماردة ثم استولى على قورية. فسار إليه عبد الرحمن، ففر منه الفاطمي إلى الجبال ولم يتمكن منه لسنوات، إلى أن انكشف أمره لأصحابه فقتلوه. عندئذ، جاءته رسل مولاه بدر بثورة اليمانية بقيادة عبد الغافر اليحصبي وحيوة بن ملامس الحضرمي. فسيًر إليهم الداخل جيشًا هزمهم، وقتل حيوة، وفرّ عبد الغافر عبر البحر.[41] تلا ذلك محاولة ابن أخيه عبيد الله بن أبان بن معاوية وبعض معاونيه الانقلاب عليه في قرطبة وهو متنزهًا خارجها، فراسله مولاه بدر بالخبر وتمكن بدر من القبض عليهم، وأمر عبد الرحمن بضرب أعناقهم. ثم وجه الداخل عام 160 هـ قوة بقيادة تمام بن علقمة وأبي عثمان لقتال الفاطمي، واقتتلا وهزمهما الفاطمي، إلا أن رجلين من أصحابه تآمرا عليه وقتلاه بعد ذلك، لتنتهي ثورته.
في عام 161 هـ، نزل عبد الرحمن بن حبيب الصقلبي بجيشه ساحل تدمير، فسارع الداخل بمهاجمة ابن حبيب، فاستغاث ابن حبيب بوالي برشلونة سليمان الأعرابي، ولكن هذا الأخير لم ينجده. وبذلك استطاع عبد الرحمن أن يهزم ابن حبيب ويحرق سفنه عند ساحل تدمير.[44] ففر الصقلبي إلى كورة بلنسية، حيث اغتاله رجل من البربر طمعًا في عطية من الداخل.


شارلمان فشل في غزو شرق الأندلس، ثم تعاهد مع عبد الرحمن الداخل :

وفي عام 164 هـ، ثار عليه الرماحس بن عبد العزيز الكناني والي الجزيرة، فسار إليه عبد الرحمن بنفسه. فلما اقترب جيش عبد الرحمن، آثر الماحس الهرب، ففر بأهله عبر البحر ولجأ إلى أبي جعفر المنصور.وفي عام 168 هـ،بلغ عبد الرحمن الداخل بعد ذلك ائتمار ابن أخيه المغيرة بن الوليد بن معاوية وهذيل بن الصميل بن حاتم به ليخلعوه، فأمر بهم فاعتقلوا، ثم قتلهما،وسخط بسبب ذلك على أخيه الوليد بن معاوية فنفاه هو وبنيه إلى المغرب.ثم ثار عليه أبو الأسود محمد بن يوسف بن عبد الرحمن الفهري عام 169 هـ في قسطلونة، فخرج إليه الداخل وقاتله وهزمه، وقتل أربعة آلاف من أصحاب أبو الأسود الذي فر يومئذ. وفي عام 170 هـ، خرج الداخل لإخماد ثورة بربر نفزة، وهي آخر غزواته.

غزو شارلمان لشرق الأندلس :

ثار سليمان الأعرابي حاكم برشلونة ومعه الحسين بن يحيى الأنصاري زعيم سرقسطة على الداخل، فأرسل لهم جيشًا بقيادة ثعلبة بن عبيد الجذامي،فهزموا جيش الداخل وأسروا ثعلبة، وأرسلوا إلى شارلمان ملك الفرنجة المعروف في المراجع العربية باسم قارلة، يدعوه للتحالف معهم. فعبر بجيشه جبال البرانس، وأغار على البشكنس في بنبلونة. ثم أنه طمع في سرقسطة، فسار إليها، فاستقبله الأعرابي، إلا أن الحسين بن يحيى وأهل المدينة أبَوّ إلا أن يقاومه، ولم يسلمو له. حاصر شارلمان المدينة، لكنه لم يقدر على فتحها، فرجع إلى بلده وأخذ الأعرابي معه أسيرًا لأنه ورّطه في ذلك الأمر.وفي طريق عودته، دبر ابني سليمان وحلفائهم من البشكنس كمينًا دمروا به مؤخرة جيش شارلمان في معركة باب الشرزي، واستطاعوا تحرير الأعرابي والفرار به، إلا أن الحسين بن يحيى ما لبث أن ترصد للأعرابي وقتله بعد ذلك بفترة قصيرة.
ثم سار الداخل بجيشه إلى سرقسطة عام 165 هـ فحاصرها وشدد عليها الحصار، فضاق أهلها من الحصار. ففاوض الحسين بن يحيى وهو يومئذ قائدهم، عبد الرحمن الداخل فك الحصار وأن يأخذ ابنه سعيد رهنًا. فقبل الداخل، إلا أن سعيد هرب بعد يوم واحد فقط. فعاد الحسين إلى الثورة، فحاصره جيش الداخل مجددًا، إلى أن ملّ أهل سرقسطة الحصار، وسلموا الحسين إلى الداخل فقتله، وقفل راجعًا إلى قرطبة.

وفات عبد الرحمن الداخل :

توفي عبد الرحمن الداخل في 24 ربيع الآخر عام 172 هـ وترك من الولد أحد عشر ولدًا منهم سليمان وهو أكبر ولده، وهشام والمنذر ويحيى وسعيد وعبد الله وكليب، ومن البنات تسع. وقد دفن في قصر قرطبة بعد أن صلى عليه ولده عبد الله. وخلفه من بعده ولده هشام الملقب بهشام الرضا بعهد من والده، رغم أن أخاه سليمان كان أسن منه.

أعمال عبد الرحمن الداخل :

اتبع عبد الرحمن الداخل سنة أسلافه من الأمويين في نظام الحكم، فاتخذ حُجّابًا، ولم يتخذ وزراء. واحتفظ دومًا بمجموعة من المستشارين، أغلبهم ممن استقبلوه وناصروه في بداية عهده وقاتلوا معه.وقد اهتم بجيشه الذي كان الدعامة التي ساعدته على السيطرة على مقاليد الأمر طوال حكمه، فبلغ جيش عبد الرحمن الداخل مائة ألف جندي من المتطوعين والمرتزقة، لاسترابته من العرب بسبب نزعاتهم المستمرة للثورة. إضافة إلى حرسه الخاص الذي بلغ أربعين ألفًا من الموالي والبربر والرقيق. كما أنشأ في أواخر عهده عددًا من قواعد بناء السفن في طركونة وطرطوشة وقرطاجنة وإشبيلية.


مسجد قرطبة أسسه عبد الرحمن الداخل عام 170 هـ :

بني عبد الرحمن قصر الرصافة في أول حكمه، وسماه الرصافة كرصافة جده هشام بن عبد الملك الذي بناه في الشام، وأحاطه بالحدائق الزاهرة التي جلب لها الغروس والزروع والنوى لم تكن من قبل في الأندلس من الشام وإفريقية. وفي عام 150 هـ، أقام سور قرطبة الكبير، الذي حصّن به قرطبة، واستمر العمل به لأعوام. وفي عام 170 هـ، أسس الأمير عبد الرحمن المسجد الجامع في قرطبة، وأنفق على بناءه 100 ألف دينار وقيل 80 ألف دينار. وكان المسلمون حين افتتحوا قرطبة، قد شاطروا أهلها كنيستهم العظمى، فابتنوا فيه مسجدًا. ولما كثرت عمارة قرطبة، ضاق المسجد على مرتاديه، فابتاع الداخل الشطر الثاني من النصارى بمائة ألف دينار، فأسس عليها الجامع، وتمت أسواره في عام، وأمر ببناءه على طراز المسجد الأموي بدمشق.وقد بلغت مساجد قرطبة في عهده 490 مسجدًا.كما أنشأ دارًا لسك العملة، تضرب فيها النقود بحسب ما كانت تضرب في دمشق في عهد بني أمية وزنًا ونقشًا.

جامع قرطبة 
  جامع قرطبة من الداخل

النقش في القبة 

لم تحدث عبد الرحمن الداخل نفسه بالخلافة، حيث كان يرى بأنه لا يستحقها إلا من ملك الحرمين، ولم يقطع الخطبة للخليفة العباسي حتى عام 139 هـ، بعد عشرة أشهر من حكمه، بعد أن أشار عليه قادته بقطعها، بل ألح بعضهم على ذلك، حتى أن عبد الملك بن عمر المرواني هدده بقتل نفسه إن لم يقطعها. أما فيما يتعلق بعلاقاته الخارجية، فبعد أن فشلت حملة شارلمان على شرق الأندلس، وهزيمة جيشه في معركة باب الشرزي. دعاه عبد الرحمن الداخل إلى السلم والمصاهرة، لتوطيد العلاقة بين الدولتين، فأجابه شارلمان إلى السلم، ولم يجبه إلى المصاهرة.
في زمنه دخل الغازي بن قيس الأندلس بموطأ مالك وبقراءة نافع بن أبي نعيم.

صفات عبد الرحمن الداخل  وشخصيته :

وصفه ابن زيدون فقال «كان أصهب، خفيف العارضين، بوجهه خال، طويل القامة، نحيف الجسم، له ضفيرتين، أعور، أخشم.» وقال عنه ابن حيان القرطبي: «كان كثير الكرم، عظيم السياسة، يلبس البياض ويعتم به، ويعود المرضي، ويشهد الجنائز، ويصلي بالناس في الجمعة والأعياد، ويخطب بنفسه». نقش خاتمه: «عبد الرحمن بقضاء الله راض»،وقيل «بالله يثق عبد الرحمن، وبه يعتصم». وقد عرف بلقب «صقر قريش»، ذلك أنه جلس أبو جعفر المنصور يومًا في أصحابه، فسألهم: «أتدرون من هو صقر قريش؟»، فقالوا له: «أمير المؤمنين الذي راض الملك، وسكّن الزلازل، وحسم الأدواء، وأباد الأعداء». قال: «ما صنعتم شيئًا»، قالوا: «فمعاوية»، قال: «ولا هذا»، قالوا: «فعبد الملك بن مروان»، قال: «لا». قالوا: «فمن يا أمير المؤمنين»، قال: «عبد الرحمن بن معاوية الذي تخلّص بكيده عن سنن الأسنة، وظُبات السيوف. يعبر القفر، ويركب البحر، حتى دخل بلدًا أعجميًا. فمصّر الأمصار، وجنّد الأجناد، وأقام ملكًا بعد انقطاعه بحسن تدبيره، وشدة عزمه. إن معاوية نهض بمركب حمله عليه عمر وعثمان، وذللا له صعبه. وعبد الملك ببيعة تقدمت له. وأمير المؤمنين بطلب عترته، واجتماع شيعته. وعبد الرحمن منفردًا بنفسه، مؤيدٌ برأيه، مستصحبًا عزمه.»
كان عبد الرحمن بن معاوية وافر العزم والدهاء والحزم والصرامة، شديد الحذر، قليل الطمأنينة، فتمكن بحملاته المتوالية على المتمردين على سلطته سواء من العرب أو البربر، التي استخدم فيها كل الوسائل المتاحة لإقرار الأمر في يده، بما في ذلك سلاح الغدر والاغتيال وإزهاق الأرواح دون تردد، مكرسًا بذلك مفهوم المكيافيلية بكل معانيه فغيّر بذلك فكرة الاندفاع وراء العصبية والقبلية التي كانت سائدة في ذاك الوقت، إلى الخضوع والانقياد للسلطة الحاكمة في قرطبة. إلا أنه رغم تلك الطباع القاسية، كان يقعد للعامة ويستمع منهم، وينظر بنفسه فيما بينهم. وكان من عاداته، أن يأكل معه من أصحابه من أدرك وقت طعامه، ومن وافق ذلك من طلاب الحوائج أكل معه. كما كان لين الجانب مع النصاري، يسير معهم بسياسة الاعتدال والمهادنة، فجعل لهم رئيسًا يسمى "القومس"، يقيم إلى جواره في قرطبة ويستشيره في كثير من الأمور
كان عبد الرحمن أيضًا شاعرًا مجيدًا له شعر مشهور منه هذه الأبيات التي تعبر عن شوقه لربوع الشام التي نشأ فيها، حيث قال:
أيها الركـب الميــمم أرضـــي              أقر من بعضي الســــلام لبعضي
إن جسمـي كما علمت بأرض              وفــــــــــؤادي ومـالـكيــه بأرض
قـدّر البيـــن بيننـا فافترقنــــا               وطوى البين عن جفوني غمضي

قد قضى الله بالفراق علينــــا                فعسى باجتمـاعنا ســوف يقضي


المصدر : من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة

يوسف بن تاشفين ,, أسس أول إمبراطورية في الغرب الإسلامي


يوسف بن تاشفين ,, أسس أول إمبراطورية في الغرب الإسلامي


نسب يوسف بن تشافين :

هو يوسف بن تاشَفين ناصر الدين بن تالاكاكين الصنهاجي (ح. 1006 - 1106) ثاني ملوك المرابطين بعد أبو بكر بن عمر. واتخذ لقب "أمير المسلمين" وهو اعظم ملك مسلم في وقته. أسس أول إمبراطورية في الغرب الإسلامي من حدود تونس حتى غانا جنوبا والأندلس شمالا وانقذ الأندلس من ضياع محقق وهو بطل معركة الزلاقة وقائدها. وحد وضم كل ملوك الطوائف في الأندلس إلى دولته بالمغرب (ح. 1090) بعدما استنجد به أمير أشبيلية.
عرف بالتقشف والزهد والشجاعة. قال "الذهبي" في "سير أعلام النبلاء": كان ابن تاشفين كثير العفو، مقربًا للعلماء، وكان أسمر نحيفًا، خفيف اللحية، دقيق الصوت، سائسًا، حازمًا، يخطب لخليفة العراق...
ووصفه "بدر الشيخ" في "الكامل في التاريخ" بقوله: كان حليمًا كريمًا، دينًا خيرًا، يحب أهل العلم والدين، ويحكّمهم في بلاده، ويبالغ في إكرام العلماء والوقوف عند إشارتهم، وكان إذا وعظه أحدُهم، خشع عند استماع الموعظة، ولان قلبُه لها، وظهر ذلك عليه، وكان يحب العفو والصفح عن الذنوب العظام...

نشأة يوسف بن تاشفين :

ينتمي يوسف بن تاشفين إلى قبيلة لمتونة؛ وهي إحدى قبائل صنهاجة الموجودة بجبل لمتونة المشهور باسم أدرار بموريتانيا، وُلِدَ على الأرجح بصحراء موريتانيا، ونشأ في موريتانيا نشأة إيمانية جهادية، وأصله من قبائل «صنهاجة اللثام» البربرية

يوسف بن تاشفين (وقيام دولة المرابطين في المغرب) :

يعتبر يوسف بن تاشفين بحق واحداً من عظماء المسلمين الذين جددو للأمة الإسلامية نهضتها وأعادوا لها تألقها وقوتها . وشخصية يوسف بن تاشفين شخصية إسلامية متميزة استجمعت من خصائل الخير وجوامع الفضيلة ما ندر أن يوجد مثلها في شخص مثله. فيوسف بن تاشفين أبو يعقوب لا يقل عظمة عن يوسف بن أيوب الملقب بصلاح الدين الأيوبي، وإذا كان الأخير قد ذاع صيته في المشرق الإسلامي وهو يقارع الصليبيين ويوحد المسلمين، فإن الأول قد انتشر أمره في المغرب الإسلامي وهو يقارع الإسبان والمارقين من الدين وملوك الطوائف ويوحد المسلمين في زمن كان المسلمون فيه أحوج ما يكونون إلى أمثاله. نشأ يوسف بن تاشفين في موريتانيا نشأة إيمانية جهادية، وأصله من قبائل «صنهاجه اللثام» البربرية.
كانت الظروف السياسية السائدة في زمن يوسف بن تاشفين غاية في التعقيد وغلب عليها تعدد الولاءات وانقسام العالم الإسلامي وسيطرة قوى متناقضة على شعوبه. ففي بغداد كانت الخلافة العباسية من الضعف بمكان بحيث لا تسيطر على معظم ولاياتها، وفي مصر ساد الحكم الفاطمي، وفي بلاد الشام بدأت بواكير الحملات الصليبية بالنزول في سواحل الشام، وفي الأندلس استعرت الخصومة والخيانة وعم الفساد بين ملوك طوائفها، وأما في بلاد المغرب الإسلامي حيث نشأ وترعرع فكانت قبائل مارقة من الدين تسيطر على الشمال المغربي، وتحصن مواقعها في ا لمدن الساحلية كسبتة وطنجة ومليلة، وهي من آثار الدولة العبيدية الفاطمية التي تركت آثاراً عقيدية منحرفة تمثلت في جزء منها بإمارة تسمى الإمارة البرغواطية سيطرت على شمال المغرب وبنت أسطولاً قوياً لها وحصنت قواتها البحرية المطلة على مضيق جبل طارق. وفي عام 445هـ أسّس عبد الله بن ياسين حركة المرابطية (الرباط في سبيل الله)، وبعد عشر سنوات تسلم قيادة الحركة يوسف بن تاشفين، فبدأ بتعمير البلاد وحكمها بالعدل، وكان يختار رجالاً من أهل الفقه والقضاء لتطبيق الإسلام على الناس، واهتم ببناء المساجد باعتبارها مراكز دعوة وانطلاق وتوحيد للمسلمين تحت إمارته، ثم بدأ يتوسع شرقاً وجنوباً وشمالاً فكانت المواجهة بينه وبين الإمارة البرغواطية الضالة أمراً لا مفر منه. استعان ابن تاشفين في البداية بالمعتمد بن عباد - وهو أحد أمراء الأندلس الصالحين - لمحاربة البرغواطيين، فأمدّه المعتمد بقوة بحرية ساعدته في القضاء على الإمارة الضالة، وهكذا استطاع أن يوحد كل المغرب حتى مدينة الجزائر شرقاً، وحتى غانا جنوباً، وكان ذلك عام 476هـ.


الأندلس :

بعد أن قوي ساعد يوسف بن تاشفين واستقرت دولته وتوسعت، لجأ إليه مسلمو الأندلس طالبين الغوث والنجدة، حيث كانت أحوال الأندلس تسوء يوماً بعد يوم، فملوك الطوائف لقبوا أنفسهم بالخلفاء، وخطبوا لأنفسهم على المنابر، وضربوا النقود بأسمائهم، وصار كل واحدٍ منهم يسعى للاستيلاء على ممتلكات صاحبه، لا يضره الاستعانة بالإسبان النصارى أعداء المسلمين لتحقيق أهدافه، واستنابوا الفساق، واستنجدوا بالنصارى وتنازلوا لهم عن مداخل البلاد ومخارجها. وأدرك النصارى حقيقة ضعفهم فطلبوا منهم المزيد. ولقد استجاب ابن تاشفين لطلب المسلمين المستضعفين، وفي ذلك يقول الفقيه ابن العربي: «فلبّأهم أمير المسلمين ومنحه اللـه النصر، وألجم الكفار السيف، واستولى على من قدر عليه من الرؤساء من البلاد والمعاقل، وبقيت طائفة من رؤساء الثغر الشرقي للأندلس تحالفوا مع النصارى، فدعاهم أمير المسلمين إلى الجهاد والدخول في بيعة الجمهور، فقالوا: لا جهاد إلا مع إمام من قريش ولستَ به، أو مع نائبه وما أنت ذلك، فقال: أنا خادم الإمام العباسي، فقالوا له: أظهر لنا تقديمه إليك، فقال: أو ليست الخطبة في جميع بلادي له؟ فقالوا: ذلك احتيال، ومردوا على النفاق».
 
وكان - يوسف بن تاشفين - رحمه الله بطلا نجداً شجاعاً حازماً مهاباً ضابطاً لملكه، متفقداً الموالي من رعيته، حافظاً لبلاده وثغوره، مواظباً على الجهاد، مؤيداً منصوراً، جواداً كريماً سخياً.. خـُطب به بالأندلس والمغرب على ألف منبر وتسعمائة منبر. وكان ملكه من مدينة افراغة أول بلاد الإفرنج قاصية شرق بلاد الأندلس إلى آخر عمل شنترين والاشبونة على البحر المحيط من بلاد غرب الأندلس.. وملك بالمغرب من بلاد العدوة من جزائر بني مزغنة إلى طنجة إلى آخر السوس الأقصى، إلى جبل الذهب من بلاد السودان. ابن أبي زرع - "روض القرطاس"

وحتى يكون ابن تاشفين أميراً شرعياً أرسل إلى الخليفة العباسي يطلب منه توليته. ويقول السيوطي في كتابه تاريخ الخلفاء: «وفي سنة تسع وسبعين أرسل يوسف بن تاشفين صاحب سبتة ومراكش إلى المقتدي يطلب أن يسلطنه وأن يقلده ما بيده من البلاد فبعث إليه الـخُلَعَ والأَعلام والتقليدَ ولقّبه بأمير المسلمين، ففرح بذلك وسُر به فقهاء المغرب». وبعد أن زاد ضغط النصارى الإسبان القادمين من الشمال استنجد بابن تاشفين المعتمد بن عباد، ونُقِلَ عنه في كتاب دراسات في الدولة العربية في المغرب والأندلس أنه قال: «رعي الـجِمال عندي خير من رعي الخنازير» وذلك كناية عن تفضيله للسيادة الإسلامية، ودخل المعتمد مع ابن تاشفين الأندلس شمالاً وقاد ابن تاشفين الجيوش الإسلامية وقاتل النصارى قتالاً شديداً وكانت موقعة الزلاقة من أكبر المعارك التي انتصر فيها المسلمون انتصاراً كبيراً على الإسبان، وهُزم ملكهم الفونسو السادس هزيمة منكرة. وعلى أثر هذه الموقعة خَلَعَ ابنُ تاشفين جميعَ ملوك الطوائف من مناصبهم ووحّد الأندلس مع المغرب في ولاية واحدة لتصبح: أكبر ولاية إسلامية في دولة الخلافة.


تسمية يوسف بن تاشفين (أمير المسلمين) :

يقول صاحب الحُلَل الـمَوْشِيّة: (ولما ضخمت مملكة يوسف بن تاشفين واتسعت عمالته، اجتمعت إليه أشياع قبيلته، وأعيان دولته، وقالت له: أنت خليفة الله في أرضه، وحقك أكبر من أن تدعى بالأمير، بل ندعوك بأمير المؤمنين. فقال لهم: حاشا للـه أن نتسمى بهذا الاسم، إنما يتسمى به خلفاء بني العباس لكونهم من تلك السلالة الكريمة، ولأنهم ملوك الحرمين مكة والمدينة، وأنا راجلهم والقائم بدعوتهم، فقالوا له: لا بد من اسم تمتاز به، فأجاب إلى «أمير المسلمين وناصر الدين» وخطب لهم بذلك في المنابر وخوطب به من العُدْوَتَيْن - أي المغرب والأندلس -). يقول السلامي الناصري في الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى: «إنما احتاج أمير المسلمين إلى التقليد من الخليفة العباسي مع أنه كان بعيداً عنه، وأقوى شوكة منه، لتكون ولايته مستندة إلى الشرع… وإنما تسمى بأمير المسلمين دون أمير المؤمنين أدباً مع الخليفة حتى لا يشاركه في لقبه، لأن لقب أمير المؤمنين خاص بالخليفة، والخليفة من قريش».


النقد الشرعي :

من علامات التقوى والتمسك بأهداب الدين تمسك الأمراء والحكام بالنقد الشرعي، وفي ذلك يقول ابن الخطيب في كتابه الإحاطة: (كان درهمه فضة، وديناره تبراً محضاً، في إحدى صفحتيه «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، وتحت ذلك «أمير المسلمين يوسف بن تاشفين»، وفي الدائر ]ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين[، وفي الصفحة الأخرى «الإمام عبد اللـه أمير المؤمنين» وفي الدائرة «تاريخ ضربه وموضع سكه»). وعبد الله اصطلاحاً هو كنية يصلح لاسم كل خليفة عباسي.
اتخذ يوسف السواد شعاراً للمرابطين، وهو نفس شعار الدولة العباسية، ورفع شعار السواد يدل على التمسك بالسنة والتمسك بالوحدة وعدم شق جماعة المسلمين، إضافة إلى أن راية رسول الله كانت سوداء. ذاع صيت ابن تاشفين بين العلماء والقضاة بشكل خاص وبين الناس بشكل عام فتناقلوا أخباره وصفاته، وتواتر عنهم نقل صفات الجهاد والعدل والزهد والإخلاص والتمسك بالإسلام وبدولة المسلمين الشرعية، حتى أثنى عليه معظم العلماء والفقهاء.


قالوا في يوسف بن تاشفين :

جاء في الخطاب المطول الذي رفعه الفقيه المعروف بابن العربي واسمه عبد الله بن عمر: «… الأمير أبو يعقوب بن تاشفين المتحرك بالجهاد، المتجهز إلى المسلمين باستئصال فئة العناد، ولمة الفساد، قام بدعوة الإمامة العباسية والناس أشياع، وقد غلب عليهم قوم دعوا إلى أنفسهم ليسوا من الرهط الكريم ولا من شعبه الطاهر الصميم، فنبّه جميع من كان في أفق قيامه بالدعوة الإمامية العباسية، وقاتل من توقف عنها منذ أربعين عاماً إلى أن صار جميع من في جهة المغارب على سعتها وامتدادها له طاعة، واجتمعت بحمد اللـه على دعوته الموفقة الجماعة، فيخطب الآن للخلافة، بسط الله أنوارها، وأعلى منارها على أكثر من ألفي منبر وخمسمائة منبر، فإن طاعته ضاعفها الله من أول بلاد الله الإفرنج، استأصل اللـه شأفتهم، ودمّر جملتهم إلى آخر بلاد السوس مما يلي غانة، وهي بلاد معادن الذهب، والحافة بين الحدين المذكورين مسيرة خمسة أشهر، وله وقائع في جميع أصناف الشرك من الإفرنج وغيرهم، قد فللت غربهم، وقللت حزبهم، وألفت مجموعة حربهم، وهو مستمر على مجاهدتهم ومضايقتهم في كل أفق، وعلى كل الطرق، ولقد وصل إلى ديار المشرق في هذا العام قاضٍ من قضاة المغرب يعرف بابن القاسم، ذكر من حال هذا الأمير ما يؤكد ما ذكرته، ويؤيد ما شرحته، وقد خصّه الله بفضائل، منها الدين المتين، والعدل المستبين، وطاعة الإمام، وابتداء جهاده بالمحاربة على إظهار دعوته، وجمع المسلمين على طاعته، والارتباط بحماية الثغور، وهو ممن يقسم بالسوية، ويعدل في الرعية، وواللـه ما في طاعته مع سعتها دانٍ منه، ولا ناءٍ عنه من البلاد ما يجري فيه على أحد من المسلمين رسم مَكْسٍ، وسبل المسلمين آمنة، ونقوده من الذهب والفضة سليمة من الشرب، مطرزة باسم الخلافة ضاعف اللـه تعظيمها وجلالها. هذه حقيقة حاله واللـه يعلم أني ما أسهبت ولا لغوت بل لعلي أغفلت أو قصرت». وجاء رد الخليفة بخط يده وبمداد ممسك: «… إن ذلك الولي الذي أضحى بحبل الإخلاص معتصماً، ولشرطه ملتزماً، وإلى أداء فروضه مسابقاً، وكل فعله فيما هو بصدده للتوفيق مساوقاً، لا ريبة في اعتقاده، ولا شك في تقلده من الولاء، طويل نجاده، إذا كان من غدا بالدين تمسكه، وفي الزيادة عنه مسلكه، حقيقاً بأن يستتب صلاح النظام على يده، ويستشف من يومه حسن العقبى في غده، وأفضل من نحاه، وعليه من الاجتهاد دار رحاه، جهاد من يليه من الكفار، وإتيان ما يقضي عليهم بالاجتياح والبوار، اتباعاً لقول القرآن: ﴿قاتلوا الذين يلونكم من الكفار﴾ فهذا هو الواجب اعتماده، الذي يقوم به الشرع عماده».

وللغزالي قول فيه رد على طلب ابن العربي منه لفتوى بحقه نقتبس منه: «لقد سمعت من لسانه -ابن العربي- وهو الموثوق به، الذي يستغنى مع شهادته عن غيره، وعن طبقة من ثقاة المغرب الفقهاء وغيرهم من سيرة هذا الأمير أكثر الله في الأمراء أمثاله، ما أوجب الدعاء لأمثاله، فلقد أصاب الحق في إظهار الشعار الإمام المستظهري، وإذا نادى الملك المستولي بشعار الخلافة العباسية وجب على كل الرعايا والرؤساء الإذعان والانقياد، ولزمهم السمع والطاعة، وعليهم أن يعتقدوا أن طاعته هي طاعة الإمام، ومخالفته مخالفة الإمام، وكل من تمرد واستعصى وسل يده عن الطاعة فحكمه حكم الباغي، وقد قال اللـه الله: ﴿وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله﴾ والفيئة إلى أمر الله الرجوع إلى السلطان العادل المتمسك بولاء الإمام الحق المنتسب إلى الخلافة العباسية، فكل متمرد على الحق فإنه مردود بالسيف إلى الحق، فيجب على الأمير وأشياعه قتال هؤلاء المتمردة عن طاعته لا سيما وقد استنجدوا بالنصارى المشركين أوليائهم، وهم أعداء الله في مقابلة المسلمين الذين هم أولياء اللـه، فمن أعظم القربات قتالهم إلى أن يعودوا إلى طاعة الأمير العادل المتمسك بطاعة الخلافة العباسية، ومهما تركوا المخالفة وجب الكف عنهم، وإذا قاتلوا لم يجز أن يتبع مدبرهم، ولا أن (ينزف) على جريحهم…. وأما من يظفر به من أموالهم فمردود عليهم أو على ورثتهم، وما يؤخذ من نسائهم وذراريهم في القتال مهدرة لا ضمان فيها… ويجب على حضرة الخليفة التقليد فإن الإمام الحق عاقلة أهل الإسلام، ولا يحل له أن يترك في أقطار الأرض فتنة ثائرة إلا ويسعى في إطفائها بكل ممكن. قال عمر رضي اللـه عنه: «لو تركت جرباء على ضفة الفرات لم تُطل بالهناء -القِطر- فأنا المسؤول عنها يوم القيامة». فقال عمر بن عبد العزيز: «خصماؤك يا أمير المؤمنين»، يعني أنك مسؤول عن كل واحد منهم إن ضيعت حق اللـه فيهم أو أقمته فلا رخصة في التوقف عن إطفاء الفتنة في قرية تحوي عشرة فكيف في أقاليم».

المصدر : من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة


عمر المختار .. أسد الصحراء






أسد الصحراء ، شيخ المجاهدين .. ألقاب لرجل لا نكتفي بوصفه بالألقاب ، ولا حتى بالأشعار والملاحم ، رجل تجلت فيه أسمى معاني الجهاد ، وأرقى عبارات الإباء والتضحية في سبيل الدين ثم الوطن .


نسب عمر المختار :

هو عمر بن المختار بن فرحات من بيت غيث من قبيلة بريدان وهي بطن من قبيلة المنفة . أمه عائشة بنت محارب .


مولد ونشأت عمر المختار :

لم يحدد المؤرخون – على وجه الدقة – السنة التي ولد فيها عمر المختار ، إلا أن الراجح أنه ولد نحو عام 1862م في قريبة جنزور بمنطقة البطنان الصحراوية في الجهات الشرقية من برقة التي تقع شرقي ليبيا على الحدود المصرية ، وتربى تربية البدو في مضارب قبيلة المنفة . وقبيلته هذه من قبائل المرابطين ، الذي عرفوا تاريخياً برباطهم على ثغور الإسلام لحمايتها . تربى المختار يتيماً ، حيث وافت المنية والده مختار بن عمر وهو في طريقه إلى مكة المكرمة بصبة زوجته عائشة .



 تعليم عمر المختار :

تلقى عمر المختار تعليمه الأولى في جنزور ، ثم سافر الجغبوب ليمكث فيها ثمانية أعوام للدراسة والتحصيل على كبار علماء ومشايخ السنوسية في مقدمتهم الإمام السيد المهدي السنوسي قطب الحركة السنوسية ، فدرس اللغة العربية والعلوم الشرعية وحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب ، ولكنه لم يكمل تعليمه كما تمنى .
ظهرت عليه علامات النجابة وزرانة العقل ، فاستحوذ على اهتمام ورعاية أستاذه السيد المهدي السنوسي مما زاده رفعة وسموا ، فتناولته الألسن بالثناء بين العلماء ، ومشايخ القبائل ، وأعيان المدن ، حتى قال فيه السيد المهدي واصفاً إياه " لو كان عندنا عشرة مثل عمر المختار لاكتفينا بهم" .

شارك عمر المختار في الجهاد بين صفوف المجاهدين في الحرب الليبية الفرنسية في المناطق الجنوبية ( السودان الغربي ) وحول واداي . وقد استقر المختار مدة من الزمن في قرو مناضلاً ومقاتلاً ، ثم عُين شيخاً لزاوية ( عين كلك ) ليقضي حقبة من حياته معلماً ومبشراً بالإسلام في تلك الأصقاع النائية .

وبعد وفاة السيد محمد المهدي السنوسي عام 1902م تم استدعاؤه حيث عُين شيخاً لزاوية القصور وهذه الزاوية تقع في أرض قبيلة العبيد ببرقة الحمراء ، وعُرفت هذه القبيلة بتمردها وصعوبة مراسها وعدم خضوعها لأي سلطان ، ولكن سرعان ما نمت عنده مهارات ، منها : معرفة أنساب القبائل ، وسبر كل واحدة منها في التقاليد والعادات ، وألم بمواطنها وأجاد فض المنازعات ، ووأد ثاراتها التاريخية في كياسة وفطنة ، مما أكسبه علاقة طيبة مع شيوخ ووجهاء قبائل برقة التي كان لها الدور الحاسم في تسلمه قادة الجهاد فيما بعد .



عمر المختار يتحول من معلم  إلى محارب :



عاش عمر المختار حرب التحرير والجهاد منذ بدايتها يوماً بيوم ، فعندما أعلنت إيطاليا الحرب على الدولة العثمانية في 29 سبتمر 1911م ، وبدأت البارجات الحربية تصب قذائفها على مدن الساحل الليبي ، وعندما علم المختار بالغزو الإيطالي سارع إلى تنظيم حركة الجهاد والمقاومة ، وقد شهدت الحقبة التي أعقبت انسحاب الأتراك من ليبيا سنة 1912م أعظم المعارك في تاريخ الجهاد الليبي ، نذكر منها على سبيل المثال معركة يوم الجمعة عند درنة في 16 مايو 1913م حيث قُتل فيها للإيطاليين عشرة ضباط وستون جنديا وأربعمائة فرد بين جريح ومفقود إلى جانب انسحاب الإيطاليين بلا نظام تاركين أسلحتهم ومؤنهم وذخائرهم .

وحينما عين أميليو حاكماً عسكرياً لبرقة ، رأي أن يعمل على ثلاثة محاور :

    الأول : قطع الإمدادات القادمة من مصر والتصدي للمجاهدين في منطقة مرمريكا .
 
    الثاني : قتال المجاهدين في العرقوب وسلنطه والمخيلي

    الثالث : قتال المجاهدين في مسوس وأجدابيا

لكن القائد الإيطالي وجد نار المجاهدين في انتظاره في معارك أم شخنب وشليظيمة والزويتينة في فبراير 1914م ، وتتواصل حركة الجهاد بعد ذلك حتى وصلت إلى مرحلة جديدة بقدوم الحرب العالمية الأولى .


الفاشيست و عمر المختار :

بعد الانقلاب الفاشي في إيطاليا في أكتوبر 1922م ، وبعد الانتصار الذي تحقق في تلك الحرب ، إلى الجانب الذي انضمت إليه إيطاليا ، تغير الأوضاع داخل ليبيا واشتدت الضغوط على السيد محمد إدريس السنوسي ، واضطر إلى ترك البلاد وقد عهد بالأعمال العسكرية السياسية إلى عمر المختار في الوقت الذي قام أخوه الرضا مقامه في الإشراف على الشؤون الدينية .

بعد أن تأكد للمختار النوايا الإيطالية في العدوان قصد مصر عام 1923م للتشاور مع السيد إدريس فيما يتعلق بأمر البلاد ، وبعد عودته نظم أدوار المجاهدين وتولى هو القيادة العامة .بعد الغزو الإيطالي على مدينة أجدابيا مقر القيادة الليبية ، أصبحت كل من المواثيق والمعاهدات ملغاة ، وانسحب المجاهدون من المدينة وأخذت إيطاليا تزحف بجيوشها م منطاق عدة نحو الجبل الأخضر ، وفي تلك الأثناء تسابقت جمع المجاهدين إلى تشكيل الأدوار والانضواء تحت قيادة عمر المختار ، كما بادر الأهالي إلى إمداد المجاهدين بالمؤن والعتاد والسلاح ، وعندما ضاق الإيطاليون ذرعاً من الهزيمة على يد المجاهدين ، أرادوا أن يمنعوا عنهم طريق الإمداد فسعوا إلى احتلال الجنوب ووجهت إليها حملة كبيرة في 8 فبراير 1826م ، وقد شكل سقوطها أعباء ومتاعب جديدة للمجاهدين ، وعلى رأسهم عمر المختار ، ولكن الرجل حمل العبء كاملاً بعزم العظماء وتصميم الأبطال .ولاحظ الإيطاليون أن الموقف يملي عليهم الاستيلاء على منطقة فزان ؛ لقطع الإمدادات عن المجاهدين ، فخرجت حملة يناير 1928م ، ولت تحقق غرضها في احتلال فزان بعد أن دفعت الثمن غالياً ، وعلى الرغم من حصار المجاهدين وانقطاعهم عن مراكز تموينهم ، إلا أن الأحداث لم تنل منهم ، وتثبط من عزمهم ، والدليل على ذلك معركة يوم 22 أبريل التي استمرت يومين كاملين ، انتصر فيها المجاهدون وغنموا عتاداً كثيراً .


مفاوضات السلام في سيدي ارحومة :

وتوالت الانتصارات ، الأمر الذي دفع إيطاليا إلى إعادة النظر في خططها وإجراء تغييرات واسعة ، فأمر موسوليني بتغيير القيادة العسكرية ، حيث عين بادوليو حاكماً عسكرياً على ليبيا في يناير 1929م ، ويعد هذا التغيير بداية المرحلة الحاسمة بين الطليان والمجاهدين .

تظاهر الحاكم الجديد لليبيا في رغبته للسلام ؛ لإيجاد الوقت اللازم لتنفيذ خططه وتغيير أسلوب القتال لدى جنوده ، وطلب مفاوضة عمر المختار ، تلك المفاوضات التي بدأت في 20 أبريل 1929م .

واستجاب الشيخ عمر المختار لنداء السلام ، وحاول التفاهم معهم على صيغة ليخرجوا من دوامة الدمار ؛ فذهب كبيرهم للقاء عمر المختار ورفاقه القادة في 19 يونيو 1929م في سيدي ارحومه ، ورأس الوفد الإيطالي بادوليو نفسه ، الرجل الثاني بعد بنيتو موسليني ، ونائبه سيشليانو ، ولكن لم يكن الغرض هو التفاوض ولكن المماطلة وكسب الوقت لتلتقط قواتهم أنفاسها ، وقصد الغزاة الغدر به والدس عليه ، وتأليب أنصاره والأهالي الملتفين حوله .

وعندما وجد عمر المختار أن تلك المفاوضات تطلب منه إما مغادة البلاد إلى الحجاز أو مصر أو البقاء في برقة وإنهاء الجهاد والاستسلام مقابل الأموال والإغراءات ، رفض كل تلك العروض ، ولأنه بطل شريف ومجاهد عظيم عمد إلى الاختيار الثالث وهو مواصلة الجهاد حتى النصر أو الشهادة . وعاد عمر المختار ورجاله لرسالتهم الجهادية ، وعادت إيطاليا إلى عنجهيتها في التعامل معهم .

وفي 20 سبتمر 1929م استشهد الفضيل بوعمر ، وكان فراقه ضربة مؤلمة للمجاهدين ، وبذلك فقد عمر المختار رفيقاً في الدرب وعوناً في الكرب .

وعلى الرغم من نصب المشانق وفتح المعتقلات والسجون ، وعزل المنتجعات عن المجاهدين ، وإحاطة الأهلين بالأسلاك الشائكة المكهربة ، واستعمال الطائرات والمدافع والقنابل ذات الغاز السام المحرمة دولياً ، وصرخات غراتسياني وتهديداته للشعب الليبي بقوله : " عندي لكم ثلاث حالات : الباخرة الموجودة في الميناء ( أي النفي إلى الجزر الإيطالية النائية ) ، وأربعة أمتار فوق الأرض ( المشنقة ) ، ورصاص بنادق جندنا ( الإعدام رمياً بالرصاص ) " . وكرر ذلك الحاكم العام لليبيا بادوليو بالتأكيد فقال : " سأدمر كل شيء ... الرجال والمصالح " . وعلى الرغم من كل ذلك لم يتزحزح عمر المختار قدر أنملة ، ووقف عملاقًأ في وجه غراتسياني وجيوشه المرتزقة التي أتى بها من إريتريا والصومال ، عدا الإيطاليين أنفسهم ، وحار غراتسياني في عمر المختار وإخوانه المجاهدين الذين لم تؤثر فيهم هذه الاحتياطات كلها ، مع أن إيطاليا قد جهزت لكل مجاهد ليبي عشرة مقاتلين من رجالها ، ومع ذلك فقد كلفتها قرابة الربع مليون قتيل وفقيد إيطالي و16 مليار فرنك قديم ؛ مما أنهك إيطاليا عسكرياً ومعنوياً . فاستسلم غراتسياني لليأس ، وقد دفعه هذا اليأس إلى الحقد على عمر المختار ، فأصبح كل أمله أن يموت هذا الشيخ الكبير ، ثم فكر في القبض على عمر المختار وذلك بحرق غابات الجبل الأخضر ، ولكنه لم يتمكن من إتمام مهمته ، فأصيب بانهيار عصبي وسافر إلى إيطاليا للاستجمام في الوقت الذي كان عمر المختار يتمتع فيه براحة البال في ظل حلاوة الإيمان ، ورجع شيخنا رغم تقدم السن به إلى سفوح الجبل الأخضر ، وظهور الجياد ، يقاتل ويجالد ، وكثيراً ما كان يهتزج عند لقاء العدو مغنياً :

جيتو في عيد ويوم سعيد :: ~ :: إن عشت سعيد وإن مت شهيد


السفاح و عمر المختار :



دفعت مواقف عمر المختار ومنجزاته إيطاليا إلى دراسة الموقف من جديد وتوصلت إلى تعيين غرسياني ، وهو أكثر جنرالات الجيش وحشية ودموية ؛ ليقوم بتنفيذ خطة إفناء وإبادة تاريخية عنيفة ، وقد تمثلت في عدة إجراءاتذكرها غرسياني في كتابه ( برقة المهدأة )   : 
1.      قفل الحدود الليبية المصرية بالأسلاك الشائكة لمنع وصول المؤن والذخائر
2.      إنشاء المحكمة الطارئة في أبريل 1930م
3.       فتح أبواب السجون في كل مدينة وقرية ، ونصب المشانق في كل جهة.
4.      تخصيص مواقع العقيلة والبريقة من صحراء غرب برقة البيضاء ، والمقرون وسلوق من أواسط برقة الحمراء ؛ لتكون مواقع الاعتقال والنفي ووالتشريد .
5.      العمل على حصار المجاهدين في الجبل الأخضر واحتلال الكفرة .



انتهت عمليات الإيطاليين في فزان باحتلال مرزق وغات في شهري يناير وفبراير 1930م ثم عمدوا إلى الاشتباك مع المجاهدين في معارك فاصلة ، وفي 26 أغسطس 1930م ألق الطائرات الإيطالية حوالي نصف طن من القنابل على الجوف والتاج ، وفي نوفمبر اتفق بادوليو وغرسياني على خط الحملة من أجدابيا إلى جالو إلى بئر زيغن إلى الجوف ، وفي 28 يناير 1931م سقطت الكفرة في أيدي الغزاة ، وكان لسقوط الكفرة آثار كبيرة على حركة الجهاد والمقاومة .



عمر المختار أسيراً :



في معركة السانية في شهر أكتوبر عام 1930م سقطت من الشيخ عمر المختار نظارته ، وعندما وجدها أحد جنود الطليان وأوصلها لقيادته ، وعندما رآها غراتسياني قال : " الآن أصبحت لدينا النظارة ، وسيتبعها الرأس يوماً ما " .
وفي 11 سبتمبر من عام 1931م ، وبينما كان الشيخ عمر المختار يستطلع منطقة سلنطة في كوكبة من فرسانه ، عرفت الحاميات الإيطالية مكانه فأرسلت قوات لحصاره ولحقها تعزيزات ، واشتبك الفريقان في وادي بوطاقة ورجحت الكفة للعدو ، فأمر عمر المختار بفك الطوق والتفرق ، ولكن فرسه قُتلت تحته وسقطت على يده مما شل حركته نهائياً . فلم يتمكن من تخليص نفسه ولم يستطع تناول بندقيته ليدافع عن نفسه ، فسرعان ما حاصره العدو من كل الجهات ، وتعرفوا على شخصيته ، فنقل على الفور إلى مرسى سوسه ، ومن ثم وضع على طراد نقله رأساً إلى بنغازي ، حيث أودع السجن الكبير بمنطقة سيدي أخريبيش ، ولم يستطع الطليان نقل الشيخ براً لخوفهم من تعرض المجاهدين لهم في محاولة لتخليص قائدهم .

كان لاعتقال عمر المختار صدىً كبيراً في صفوف العدو ، حتى إن غراسياني لم يصدق ذلك في بادئ الأمر ، وكان غراتسياني في روما حينها كئيباً حزيناً منهار الأعصاب ، في طريقه إلى باريس للاستجمام والراحة ؛ تهرباً من الساحة بعد فشله في القضاء على المجاهدين في برقة ، حيث بدأت الأقلام اللاذعة في إيطاليا تنال منه ، والانتقادات المرة تأتيه من رفاقه ، مشككة في مقدرته على إدارة الصراع . وإذا بالقدر ينقذه من أزمته عندما تلقى برقية مستعجلة من بنغازي مفادها إن عدوه اللدود عمر المختار وراء القضبان ؛ فأصيب غراتسياني بحالة هستيرية كاد لا يصدق الخبر ، فتارة يجلس على مقعده وتارة يقوم ، وأخرى يخرج متمشياً على قدميه محدثاً نفسه بصوت عال ، ويشير بيديه ويقول : " صحيح قبضوا على عمر المختار ؟ ويرد على نفسه لا ، لا أعتقد . " ولم يسترح باله فقرر إلغاء أجازته واستقل طائرة خاصة ، وهبط في بنغازي في اليوم نفسه وطلب إحضار عمر المختار إلى مكتبه لكي يراه بأم عينه .

وصل غراتسياني إلى بنغازي يوم 14 سبتمبر ، وأعلن عن انعقاد " المحكمة الخاصة " يوم 15 سبتمبر 1931م ، وفي صبيحة ذلك اليوم وقبل المحاكمة رغب غرتسياني في الحديث مع عمر المختار .. يذكر غراتسياني في كتابه ( برقة المهدأة

"
وعندما حضر أمام مكتبي تهيأ لي أن أرى فيه شخصية آلاف المرابطين الذين التقيت بهم أثناء قيامي بالحروب الصحراوية . يداه مكبلتان بالسلاسل ، رغم الكسور والجروح التي أصيب بها أثناء المعركة ، وكان وجهه مضغوطاً لأنه كان مغطياً رأسه ( بالجرد ) ويجر نفسه بصعوبة نظراً لتعبه أثناء السفر بالبحر ، وبالإجمال يخيل لي أن الذي يقف أمامي رجل ليس كالرجال له منظره وهيبته ، رغم أنه يشعر بمرارة الأسر ، ها هو واقف أما مكتبي نسأله ويجيب بصوت هادئ وواضح
 "
غراتسياني : لماذا حاربت بشدة متواصلة الحكومة الفاشستية ؟

أجاب الشيخ عمر المختار : من أجل ديني ووطني .

غراتسياني : ما الذي كان في اعتقادك الوصول إليه ؟

فأجاب الشيخ عمر المختار : لا شيء إلا طردكم .. لأنكم مغتصبون ، أما الحرب فهي فرض علينا وما النصر إلا من عند الله .
غراتسياني : لما لك من نفوذ وجاه ، في كم يوم يمكنك أن تأمر الثوار بأن يخضعوا لحكمنا ويسلموا أسلحتهم ؟

فأجاب الشيخ عمر المختار : لا يمكنني أن أعمل أي شيء ، وبدون جدوى نحن الثوار سبق أن أقسمنا أن نموت كلنا الواحد بعد الآخر ، ولا نسلم أو نلقي السلاح .

يستطرد غراتسياني حديثه " وعندما وقف ليتهيأ للانصراف كان جبينه وضاء كأن هالة من نور تحيط به ! فارتعش قلبي من جلالة الموقف أنا الذي خاض معارك الحروب العالمية والصحراوية ، ولُقبتً بأسد الصحراء . ورغم هذا فقد كانت شفتاي ترتعشان ، ولم أستطع أن أنطق بحرف واحد ، فأنهيت المقابلة وأمرت بإرجاعه إلى السجن لتقديمه إلى المحاكمة في المساء ، وعند وقوفه حاول أن يمد يده لمصافحتي ولكنه لم يتمكن لأن يديه كانتا مكبلتين بالحديد . "




مهزلة محاكمة عمر المختار :



عُقدت للشيخ الشهيد عمر المختار  محكمة هزلية صورية في مركز إدارة الحزب الفاشستي في بنغازي ، مساء يوم الثلاثاء ، عند الساعة الخامسة والربع في 15 سبتمبر 1931م ، وبعد ساعة – تحديداً – صدر منطوق الحكم بالإعدام شنقاً حتى الموت ، وعندما ترجم له الحكم ، قال الشيخ " إنِ الحُكْمُ إلاّ لله ... لا حكمكم المزيف .. إنا لله وإنا إليه راجعون " .
بعد ذلك سمح الجمهور بدخول قاعة الجلسات ، بينما جلس المتهم في المكان المخصص للمتهمين ، تحت حراسة عسكرية ، وهو طليق اليدين وغير مكبل بأغلال من أي نوع .





شهادة عمر المختار :



في صباح اليوم التالي للمحاكمة الأربعا ، 16 سبتمبر 1931 ، اُتخذت جميع التدابير اللازمة بمركز سلوق لتنفيذ الحكم ، وذلك بإحضار جميع أقسام الجيش والميليشيا والطيران ، وأحضر 20 ألفاً من الأهالي وجميع المعتقلين السياسيين خصيصاً من أماكن مختلفة ؛ لمشاهدة تنفيذ الحكم في قائدهم .


وأحضر الشيخ عمر المختار مكبل الأيدي ، وعلى وجهه ابتسامة الرضا بالقضاء والقدر ، وبدأت الطائرات تحلق في الفضاء فوق المعتقلين بأزيز مجلجل ، حتى لا يتمكن عمر المختار من مخاطبتهم .





وفي تمام الساعة التاسعة صباحاً سلم الشيخ إلى الجلاد ، وكان وجهه يتهلل استبشاراً بالشهادة وكله ثبات وهدوء ، فوُضع حبل المشنقة في عنقه ، وقيل عن بعض الناس الذين كانوا على مقربة منه إنه كان يؤذن في صوت خافت أذان الصلاة ، والبعض قال : إنه تمتم بالآية الكريمةيَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً(28) } [ الفجر ] ليجعلها مسك ختام حياته البطولية . وبعد دقائق صعدت روحه الطاهرة النقية إلى ربها ، تشكو إليه عَنَتَ الظالمين ! وجور المستعمرين ..

وسبق إعدام الشيخ أوامر شديدة بتعذيب وضرب كل مَن يُبدي الحزن أو يُظهر البكاء ، عند إعدام عمر المختار ، فقد ضُرب جربوع عبد الجليل ضرباً مبرحاً بسبب بكائه عند إعدام عمر المختار . ولكن علَت أصوات الاحتجاج ، ولم تكبحها سياط الطليان ، فصرخت فاطمة داروها العبارية ، وندبت فجيعة الوطن عندما رأت الشيخ شامخاً مشنوقاً ، ووصفها الطليان بـ ( المرأة التي كسرت جدار الصمت ) .

وصُعقت الأمة بوحشية إيطاليا في تنفيذ حكم الإعدام بعمر المختار ، وهو في نحو العقد السابع من عمره ! وهاج الشارع العربي وماج ، مع صمت رهيب مريب في الدوائر والمؤسسات الرسمية العربية ؛ فامتعض الشارع العربي في مصر وسوريا وتونس والمغرب والجزائر والعراق ؛ حيث أُقيمت المآتم ، وخرجوا في مظاهرات طافت شوارع المدن ، وأُغلقت المتاجر ، ودعا الخطباء إلى مقاطعة البضائع الإيطالية ، وظهر الشارع العربي بمظهر الحِداد على هذا الرجل العصامي ، وصُليت عليه صلاة الغائب في المسجد الأقصى في فلسطين ، وجامع بني أمية في سوريا ، وكذلك تلاحمت الحوزة الشيعية بالكاظمية في العراق مع جهاد عمر المختار واستشهاده .

أما في فلسطين فطالب علماؤها وأعيانها أن يُسلَّم جثمان عمر المختار لهم ، لكي يُدفن في القدس تبركاً وتيمناً به كمجاهد صادق غيور .

المصدر :
كتاب ( عظماء بلا مدارس)